وددت أن تنجح المهمة الأخيرة للإبراهيمي على رغم أني لا أعرف خفاياها، وأظنها أدق وأشد مما أعلن عنه، وأن يجد النظام فرصة أخيرة لمخرج يوقف شلال الدماء ويجنب سوريا ما يمكن أن يحدث إثر انهيار غير مرتب، ربما يجر على سوريا وطوائفها في ساحات انتقاماً وتصفيات فوضوية ما لا يطاق من الويلات. وددت أن يفعل الأسد ما فعل رؤساء سوريون من قبل مثل شكري القوتلي والشيشكلي حين تنازلا عن الحكم طواعية فداء لسوريا، ووددت لو أن المعارضة السياسية وضعت الكرة في الملعب الآخر، فالسياسة ملعب لاحاجة لشرح قوانينه. وأقول إنني لا أعرف تفاصيل مهمة الإبراهيمي الروسية المنشأ، لأن الرسالة فيها كانت غائمة، وهي لم تلق قبولاً قبل أن يصل الإبراهيمي، فقد سارع النظام إلى الرفض، وكان التعبير عنه دموياً، وقد فهم المراقبون مجزرة حلفايا رداً عملياً، حيث قُتل العشرات من النساء والأطفال الذين كانوا ينتظرون رغيف الخبز بعد انقطاعه أياماً جاع فيها الناس، وقد تلتها مجازر أخرى أمام ثلاثة أفران في البصيرة وبلدات أخرى وتم يومها قصف براميل التدمير على معرتمصرين وكورين وسواهما في إدلب وعلى عدة بلدات في محافظات أخرى، واستخدم الغاز المميت في حمص، في تصعيد فهمه المراقبون رفضاً للحلول السلمية، وإصراراً على متابعة طريق القمع الدموية. وفشل مهمة الأخضر يغلق الباب أمام أية طروحات سياسية تفاوضية، وقد أنذر الإبراهيمي بخطر ما يمكن أن يحدث من تصعيد كبير في القتل والتدمير بعد فشل مهمته، وأتوقع ظهور تحولات كبرى في المواقف الدولية، ربما تكون بوادرها في التلويح بتوقف المساعدات الإغاثية من هيئة الأمم، كما ظهرت بوضوح حالة التجاهل الدولي لمضمون واستحقاقات الاعتراف بالائتلاف المعارض بعد مؤتمر مراكش. ولعل مزية المهمة أنها أعلنت للمرة الأولى موقفاً من القضية السورية تتوافق عليه روسيا مع الولايات المتحدة، ولابد أن الاتحاد الأوروبي كان شريكاً في الباطن، ولكنني أشك في صدقية الاختلاف المعلن بين موقف روسيا وأميركا من البداية، لكننا مضطرون أن نأخذ بالمذهب الظاهري أحياناً، وأن ندع الشكوك، دون أن نغمض أعيننا عما هو مستتر، وندرك أن الولايات المتحدة لم تكن معنية فعلاً بإيجاد حلول سياسية جادة تجنب شعبنا مزيداً من التدمير، حتى بتنا نبحث عن التماهي في موقف روسيا وأميركا، وبتنا نعتقد أن هناك من تروق له هذه المجازر، ومن يسعده أن يرى السوريين يدمر بعضهم بعضاً، ومن يتمنى أن يرى سوريا تعود إلى العصور البدائية. لقد فهم كثيرون أن عجز المجتمع الدولي عن فرض مخرج سلمي سياسي يوقف هذه الفاجعة الإنسانية الكبرى غير مقنع، وفهموا أن جلسات مجلس الأمن وما كان فيها من "فيتو" حول القضية السورية هي مجرد تمثيليات، ويرى بعضهم أن هذا الموقف المتردد لم يكن دفاعاً عن النظام، فالعلاقات السورية الروسية لم تكن متينة خلال السنوات العشر الماضية، بل كنا نعتب على بوتين تجاهله زيارة سوريا خلال سنوات حكمه، وحتى عندما زار المنطقة مؤخراً اكتفى بزيارة تل أبيب، ولم تكن زيارة ميدفيدف الخاطفة عام 2010 أكثر من مجاملة قال فيها "نحاول أن نوطد العلاقة مع أصدقاء سابقين"، وكان قد التقى الأسد عام 2008 في سوتشي ليؤكد له الأسد وقوف سوريا مع روسيا في حربها يومذاك ضد جورجيا. ويومها تمنى الأسد أن تعود الصداقة بين البلدين، وأقصد من هذا التذكير إشارة إلى أن العلاقات السورية الروسية لم تكن حتى قبل عامين قوية بما يكفي لأن تلعب روسيا هذا الدور الذي تلعبه الآن، على رغم أن مدفيدف قال بوضوح إنه "يوجه انتقادات إلى الرئيس الأسد والمعارضة على حد سواء لأن سفك الدماء يتحمله الطرفان، وهما يتقاسمان المسؤولية عما يحدث". والفهم بأن موقف روسيا كان بتنسيق مع الولايات المتحدة يزيده تأكيداً موقف الصين التي لا شأن لها فيما يحدث، على رغم كون العرب سوقاً واسعة للمنتجات الصينية. وبالطبع لم نكن نريد من المجتمع الدولي أي تدخل عسكري، كان ما نطلبه هو أن يجتمع الموقف الدولي في مجلس الأمن على فرض إيقاف نزيف الدم منذ بدايته، وعندها لن تكون إيران قادرة على التفرد، وبالمناسبة ليس صحيحاً تماماً ما يقال عن عمق العلاقات السورية الإيرانية، فهذه العلاقات قائمة على الشك المتبادل، ولم تكن تجارب التعاون الاقتصادي ناجحة في شيء مع إيران، ولكنها علاقات الضرورة المتبادلة، بل إنني كنت ألمس بقوة ارتياحاً عاماً للعلاقات مع تركيا أكبر من الارتياح للعلاقات مع إيران التي كانت تضيق بتردد سوريا في قبول البعد الديني لإيران وبإصرار سوريا على كون الخليج عربياً وليس فارسياً، وتضيق بشوق سوريا لعلاقات قوية خارجة عن السرب الإيراني مع الغرب ولاسيما حين بدأ شهر العسل السوري الفرنسي في عهد ساركوزي الذي فتح أبواب أوروبا لاستقبال سوريا بعد سنوات من الجفاء. والعجيب أن سوريا لم تجد الدعم القوي من أصدقائها المفترضين (روسيا وإيران) إلا حين بدأ نزيف الدم، وكان أولى بالأصدقاء أن يسارعوا إلى حقنه بدل أن يشجعوا على مزيد من التدمير، وكان بوسعهم أن يقدموا النصح، وأن يعملوا على تفادي الانهيار، كما فعل أصدقاء آخرون كانوا أقرب بكثير إلى الأسد، وحاولوا تقديم المشورة وتجنيب سوريا طوفان الدم، وأقصد أردوغان وأمير قطر، وقادة الإمارات، ولم تكن المملكة العربية السعودية بعيدة، فقد تم تقارب كبير غسل شجون الماضي القريب. أما وقد فشلت مهمة الأخضر، فلن يبقى سوى الإصرار المتصاعد على متابعة القتل والدمار، فهل سنشهد صحوة ما للضمير الإنساني لنصرة شعب سوريا قبل أن تقع كارثة العصر إذا دخلت الثورة (لا سمح الله) في أتون حرب طائفية مازال شعبنا يرفضها على رغم كل الدفع إليها؟