سيكون من الخطأ الخلط بين مقترح موازنة فضفاض، وموازنة مقترحة حقيقية، رغم ما يبدو عليهما من تشابه، فمقترح الموازنة على غرار ما اقترحه عضو مجلس النواب، بول رايان، والسيناتور باتي مواري، يمثل التوافق الذي تم التوصل إليه داخل هيئة حزبية معينة (الحزب الجمهوري)، على أن يُطرح للنقاش السياسي. ولو أن الخبراء في الحزبين الديمقراطي والجمهوري وضعوا موازنة فعلية لا ينقصها سوى التصويت في الكونجرس ولها فرص كبيرة لنيل موافقة الأغلبية، فسنكون بصدد شيء مختلف تجاوز مقترح الموازنة إلى موازنة فعلية مقترحة، لذا لا يمكن التعامل مع مبادرة رايان كموازنة حقيقية، بل كمقترح لما يحمله من نقاط قوة، وأيضاً لما ينطوي عليه من نقاط ضعف واضحة. فالمقترح جيد من ناحية توصيته بإصلاح فعلي لبرنامج «ميدكير» للرعاية الصحية الذي يستفيد منه الأميركيون الذين تتجاوز أعمارهم 65 سنة، والمصابون ببعض الأمراض، وذلك لضرورة الإصلاح على المدى الطويل حتى يبقى البرنامج على قيد الحياة، وكذلك للحفاظ على المالية العامة. لكن من جهة أخرى يظهر المقترح قصوراً يتجسد في رفض رايان النظر في إمكانية الحصول على موارد دخل إضافية من خلال الضرائب، فضلا عن الدعوات المطالبة بخفض برنامج آخر للرعاية الصحية تموله الحكومة الأميركية وتديره الولايات منفردة معروف باسم «ميدك إيد» الذي يستهدف ذوي الدخل المحدود في الولايات المتحدة، ومعه أيضاً الحد من النفقات الاختيارية التي تلجأ إليها الحكومة خارج موافقة الكونجرس كلما ارتأت ذلك. هذه النقاط التي يتسم بها مقترح الموازنة الذي قدمه رايان تلخص باختصار التوجه الأيديولوجي لواضعيه بدلا من أن يستجيب للحاجيات الموضوعية للاقتصاد أو التعاطي مع المتطلبات الإنسانية. أما الديمقراطيون فاقترحوا بعد سنوات من الصمت مقترحاً يقوم هو الآخر على الاعتبارات الأيديولوجية بجمعه بين الضرائب الثقيلة وبعض التغييرات السطحية في الموازنة العامة، وزيادة الإنفاق، فضلا عن رفض مستميت لإصلاح برامج الاستحقاق الاجتماعي، ليصبح صمتهم أفضل بكثير من مقترحهم. ومع أن كلا المقترحين لا يستحق التحليل باستفاضة، فمن المفيد النظر في تبايناتهما؛ فمن ناحية يرى الجمهوريون أنه بالنظر للتوجهات الديموغرافية والواقع المالي فلابد كي تستمر أميركا في توفير المساعدات المادية والصحية إلى الفقراء وكبار السن، وفي الوقت نفسه الحفاظ على دور أميركي ما في العالم، من تقليص الدور الخدمي الواسع للحكومة، وإعادة التركيز على البرامج الأساسية التي تستهدف الأكثر فقراً. هذا فيما يصر الديمقراطيون على أنه يمكن القيام بكل ذلك، على أن لا ننظر إلى حالنا بعد عشر سنوات، إذ سنكون قد أفلسنا حينها. وإذا كان طرح الجمهوريين أكثر واقعية، فإن مُقترح رايان ينطوي على تناقضات داخلية، إذ أعطى فريقه الذي كتب وثيقة المقترح أهمية كبيرة للغة التي جاء بها المقترح الذي ما زال ينتظر التصويت على حساب المضمون، ليظهر في النهاية التناقض بين حجم الطموحات التي حملتها الوثيقة والآليات السياسية القادرة على إنزاله إلى أرض الواقع، ومثلا يتحدث رايان في مقترحه عن استبدال برنامج أوباما «كير» بآخر يكون موجهاً نحو السوق ويعتمد على خدمة العملاء، لكنه لا يضع تصوراً حقيقاً لهذا البرنامج أو بديلا مفصلا عنه. وأكثر من ذلك تتسع الفجوة في المقترح بين اللغة والمضمون عندما يتم الحديث عن سياسة الدول في الداخل، حيث تقول الوثيقة إن «دور صناع السياسة هو رفع القيود عن المجتمع لانبثاق أفراد أقوى وأكثر ازدهاراً، فالانضباط المالي والفرص الاقتصادية ما هي سوى وسيلة لبناء مجتمع أقوى وتمكين العائلات والمواطنين». ومع أنه لا خلاف حول هذا الطرح، فإن ما يقترحه الجمهوريون من إصلاحات على البرامج الاجتماعية يروم التقليص من خدماتها ولا يتوافق مع أجندة التمكين، والسبب جزئياً راجع إلى ميل المحافظين لرؤية المجتمع المدني كبديل عن الحكومة، وإلى تدخل الحكومة على أنه بالضرورة سلبي وعلى حساب المجتمع. والحال أن الحكومة من خلال قانون الضرائب والمنح تستطيع تعزيز العائلات والمجتمع. وحتى إذا كان تدخل الحكومة يساهم في انسحاب المجتمع وإضعافه، فإن تراجع الدولة عن دورها لا يعني بالضرورة تقوية المجتمع وتعزيزه، فحكومة صغيرة تستدعي مجتمعاً كبيراً، لكن حكومة صغيرة لا تقود تلقائياً إلى مجتمع كبير. وهي حقيقة غابت عن مقترح الجمهوريين، لذا فإن تحويله إلى سياسة تحظى بالمصداقية يعتمد على تجاوز الكليشيهات التي وردت في وثيقة الموازنة كما قدمها رايان وتحديد سياسات واضحة تحولها إلى أجندة حقيقية تتجاوز الاعتبارات الأيديولوجية إلى خدمة الصالح العام. مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»