الساحر الذي دخل البلاد قبل شهر تقريباً وأُلقي القبض عليه مؤخراً، تبدو ملامحه هذه المرة مختلفة عن الوجوه والسمات التي تعودنا أن يكون عليها أمثاله، فهو هذه المرة عربي الجنسية في الثلاثينيات من عمره، دخل البلاد بتأشيرة سائح، لكن ماذا جاء يفعل هذا الساحر الشاب عندنا؟ إنه كما اعترف يقوم بتأليف القلوب وحيلته الخيط والإبرة! يحل المشكلات العائلية، يقرّب بين الزوجين المتنافرين، ويساعد الذي يبحث عن قلب يهواه، فهو متخصص في الجوانب العاطفية، جاء غريباً إلى هنا، لكنه وجد زبائن كثيرين وراجت بضاعته بينهم سريعاً. أية قلوب هذه التي سيجمعها أو يعيد إليها الدفء من جديد خيط وإبرة هذا الدجال، بينما لم يستطع الحب ولا العشرة أن يضمنا تآلفهما واستمرارية الحياة بينهما؟! أي عاقل يمكن أن يصدق مثل هذه الترهات أو يؤمن بها؟! هذه واحدة من أبرز المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها مجتمعاتنا الخليجية عموماً، وتتمثل في القلوب أو البيوت المحطمة، التي تعيش خراب الحب المفقود أو الذي توهمت هذه الأسر أنه كان موجوداً عندها وغادرها فجأة، فذهبت تداوي هذه الجراح بالخيط والإبرة، تبحث عن «ساحر» يعيد لها الحب المسروق أو الذي هرب منها! الإشكالية أن هذا الذي يحدث من انتشار سراديب السحرة والشعوذة ووجود فئة تؤمن بقدراتهم، لا يحدث في زمن فرعون أو في عصر الجاهلية، حتى نخلق للمجتمع أعذاراً ونبرر له تصرفات بعض أفراده. إننا في زمن الساحرُ الأكبرُ فيه هو العلم والتكنولوجيا والاختراعات، وهؤلاء الذين يبحثون عن مثل هذا المشعوذ ويصدقونه هم نساء ورجال نالوا حظاً كبيراً من العلم، بعضهم يحمل درجات جامعية متقدمة، وبعضهم قد يكون معلماً أو معلمة، ومنهم من هو في مراكز وظيفية مرموقة، وكثير منهم يعيش في نعيم ورفاهية، وكلهم شاهدوا التطور وعاشوا ثورة العلم ويعلمون حدود الحلال والحرام وسمعوا كثيراً عن حكم الدين في من يذهب إلى عرّاف ومن يصدقه. لماذا فقدوا الحب والاستقرار والأمان في حياتهم، أو بالأحرى لماذا سعوا في خرابها قبل ذلك، ولم يحاولوا إصلاح تلك الثقوب الضيقة التي كانت تتولد من صغائر الأمور؟ لماذا سمحوا لها أن تكبر، وتدمر حاضرهم ومستقبلهم أيضاً؟ وهل العلاج هو في البحث عن مشعوذ يعيد هذه القلوب إلى بعضها ولو بالقوة؟ ماذا لو كانت تلك الوصفات، وهي كذلك سماً ووهماً وأفعالًا شيطانية، قد تجعل الأول مريضاً أسيراً، والآخر قلقاً ضائعاً يعاني استغلال الدجال والأوجاع النفسية واضطرابات العيش قرب شخص أحبه يوماً ما، لكنه هذه المرة أصبح مقيداً بسحره، هل تكون نهاية الحب وعلاقة الألفة والود والرحمة هكذا: جراح نفسية يعجز الطب عن مداواتها، فساد واستغلال ونهايات مأساوية للطرفين؟! مؤشرات حالات الطلاق في مجتمعات الخليج أو قصص الإرشاد الأسري في المحاكم تتحدث عن أن شريحة الشباب هم أبطال هذه القضايا، وهذه حالة غريبة تخالف المنطق، فهؤلاء في أول أعمارهم، من المفترض أنهم دخلوا بيوت الزوجية بحب وتفاهم، وعندهم أحلام كثيرة لبناء بيت سعيد مشترك ومستقبل جميل كله تفاؤل وطموح. كيف تغيرت أحوالهم فجأة؟ وكيف تولدت المنغصات؟ ومتى حدث الانفجار؟ هناك حالات زواج انتهت بالطلاق في ليلة الدخلة أو لم تكمل شهر العسل، وأخرى تحمل نهايات معذبة تركت أطفالًا يعانون التشرد أو حرمان العيش في بيت واحد يضم ذويهم، أو حتى وجع أنهم شاهدوا والديهم وهم في حالات الصراخ والشتم أو الضرب، مشاهد لا يمكن أن تنساها ذاكرة أولئك الصغار، ويعلم الله ماذا ستولّد فيهم عندما يكبرون، وكيف سينظرون للعالم وكيف سيعيشون في المجتمع وفي خيالاتهم كل تلك الصور المروعة! كيف يمكن أن يعالج هذا الخلل، هذه التصدعات التي تعاني منها بعض الأسر؟ وهل تترك حتى تكبر وتصبح معضلة ويكون علاجها عند الساحر كما يتوهم بعض أطرافها؟ أم أن هناك جهات وأطرافاً يمكنها أن تساهم في علاج هذه القضايا واحتوائها؟ هل هي مشكلات تحتاج إلى برامج توعوية؟ أم أنها موضوعات تتطلب مستلزمات ضرورية كالاستقرار المادي المتمثل في توفير السكن والوظيفة؟ أم هي مرتبطة بظاهرة الإغراق في الديون؟ هل هي سلوكية تعود لارتباط طرف بمستنقع المخدرات ورفاق السوء؟ وهل هو الدلال الزائد وعدم القدرة على تحمل المسؤولية عند بعضهم؟ ومن يلام ومن يتحمل مسؤولية الجزء الأكبر من هذا الذي يحدث: الأسرة أم المدرسة أم الشارع أم الإعلام... أم المجتمع بأكمله؟ قبل فترة قرأنا عن حجم الطرود والإرساليات التي تمت مصادرتها والمتعلقة بطلاسم المشعوذين وأدواتهم. شحنات تعد بالمئات، تعود لمشعوذين مارسوا مختلف أساليب الخداع والتمويه لمحاولة إدخالها ونشرها. وشاهدنا تقريراً تلفزيونياً نقل لنا لحظات القبض على مشعوذة، وشاهدنا بشاعة الحياة التي تعيشها، وحجم الكذب الذي مارسته؟ وهناك عشرات السحرة مثل هذين وأشد دجلا قُبض عليهم وقرأنا عن قصصهم خلال السنوات الماضية، لكن غيرهم كثر مازالوا يجولون في الظلام، لهم زبائنهم وتجارتهم رائجة، فالقلوب المشروخة يمكن اللعب عليها وعصرها وتحطيمها واستغلالها بيسر... فمتى ينتبه هؤلاء إلى بيوتهم ورفاقهم وأسرهم ويحاولون تغذية نفوسهم ومحيطهم بالحب الحقيقي، وتكون عندهم إرادة صادقة لتغيير حياتهم نحو الأفضل، يسعون إلى البحث عن حياة مشتركة سليمة، وعليهم أن يؤمنوا بالله ويكفروا بخيوط وأوهام السحرة؟!