لا شك أن التكنولوجيا يمكنها أن تطور حياتك وتجعلها أكثر سهولة ومتعة ورفاهية، فتمنحك خيارات عديدة وفضاءً مفتوحاً، لكن أن تصنع لك حياة جديدة، وتتيح لك تغيير ثقافتك وهواياتك ونمط تفكيرك وأسلوب عيشك، وبهذه السرعة الجنونية من عمر الزمن، فهذا ما لم يكن ليصدقه أحد قبل عصر الإعلام الاجتماعي. قبل «تويتر» ورفاقه الجدد كنا نستخدم التقنيات الحديثة في إرسال الرسائل وتصفح الإنترنت والتواصل مع من نحب في هذا العالم متى أردنا ذلك ومتى استجاب الطرف الآخر. لكن قنوات الاتصال في الإعلام الاجتماعي الجديد لم تقتصر على تغيير هذا الأسلوب، وجعله أكثر سهولة من حيث التقنيات والسرعة في التواصل المباشر والجريء من غير قيود أو ضوابط أمام الجميع... بل إن هذه القنوات بدّلت فينا وحولنا أشياء أكبر وأصعب لم نتخيل أن يأتي من يمكنه أن يغيرها يوماً! لقد ألغت أية أقواس يمكنها أن تحجّم وتضبط «الكلمة»، لتصبح الأخيرة حرة، كما جعلتنا نتداول ما نريد وما لا نريد، واكتشفنا أن الحروف التي نكتبها أو نقولها، أو نصوّرها من غير ضوابط ومن غير تفكير ولا رقيب ذاتي، تكون في حالات مسمومة وسيئة وقبيحة، نشعر بذلك عندما نصنعها أو في الحالات التي ينعكس ردة فعلها علينا. هذا العالم الجديد قلب لنا حياتنا، وكذلك أثّر في عقولنا وطريقة طرحنا أو تناولنا للموضوعات والقضايا، حتى أنه أحدث تحولات في اللغة التي نستخدمها، فمفردات السباب والقذف والأوصاف التي نعبّر بها والصور الكلامية التي لا تحمل مفردات الاحترام والتقدير، أصبحت مستباحة وبدأت تدخل قواميس أكثرنا، هذا من التأثير اللاشعوري لهذا العالم الذي حبسنا أنفسنا فيه بإرادتنا واستمتاعنا وشغفنا بتفاصيله. أخذنا الإعلام الاجتماعي من بيوتنا، من أسرنا، من لحظات السعادة التي كنا نجدها في اجتماع البيت الكبير الذي يضم أطياف العائلة بأعمار أفرادها، «الشواب» والأطفال معاً، والذي يتكرر في المناسبات السعيدة، وفي جلسات المقهى للذين يعشقون ملتقياته، وفي ضجيج الشارع، وإنتاجية العمل، والاستمتاع بالصحراء، ولذة رؤية المطر إذا أقبل في غير موسمه الشحيح، وفي روعة ركوب البحر خلال الإجازات، وفي مراقبة نبات ينمو كما هو عذق النخيل، أو رؤية فرس جامح يسابق الريح يركض وحيداً..! لقد أخذتنا كائنات المجتمع الجديد، وجعلت وجودها أهم من كل ذلك، أو شريكة له على الأقل، حيث يمكننا الهرب من كل ذلك سريعاً لنمارس «التتويت»، أو نستمتع بـ«اليوتيوب» و«انستجرام» أو«كيك» المشاغب صاحب العين السحرية الخضراء... نفكر في الصورة أو التعليق، وننسى الاستمتاع باللحظة الجميلة. خلال وجودنا في هذا العالم الجديد لا وقت للقراءة، مطالعة الكتاب الورقي، لا وقت للخشوع، لا وقت للراحة، لا وقت للتفكير... يسحبنا الهاجس والترقب والقلق للمتابعة حتى لا تفوتنا المستجدات المتشابهة، وخلال كل لحظة في هذا العالم، علينا أن نختار من بين ما يزيد على 170 مليون تغريده كل يوم، بمن سنلحق؟ وماذا سنقرأ؟ وكم سنقرأ؟ وهل لهذا الذي نطالعه فائدة مضافة؟! كذلك لا نعرف متى ننام أو متى تنام الأطراف الأخرى، ننسى أننا في بلد له أوقات مقسّمة، فيه ليل ونهار وساعات للعمل وأخرى للراحة، وأنهم في بلدان أخرى يتأخر أو يتقدم توقيتها، ولها مشاغلها وأجواؤها. لا نعرف وقتاً للاستيقاظ من غير منبه كي نفتح الصفحة ونفكك الروابط ونستمتع بالكثير الذي معظمه غث وتوافه وسباب. كيف هو الإعلام الاجتماعي في أوطاننا العربية؟ ماذا أضاف لنا وماذا أضفنا له؟ كم نسبة الذين يستخدمونه أو يدمنونه؟ وهل استفادوا منه واستثمروه بشكل سليم؟ محاولة قراءة بعض الأرقام الإحصائية، والتي تتغير كل ثانية، تكتشف أننا دخلنا، ولا تزال بقية أفراد شعوبنا تمارس الدخول بأعداد كبيرة، إلى هذا العالم الجديد، فعدد مستخدمي «الفيسبوك» مثلاً في العالم العربي تجاوز خمسين مليون مستخدم، معظمهم من جيل الشباب، وأن عدد التغريدات اليومية على «تويتر» التي بثت من العالم العربي خلال الشهر الماضي وصلت إلى معدل خمسة ملايين تغريدة في اليوم الواحد، وأن بلدنا الإمارات فيه أكثر من 300 ألف مغرد، وأن هناك 90 مليون مشاهد يومياً لـ«اليوتيوب» في المملكة العربية السعودية وحدها. فائدة هذا الإعلام الجديد في البلدان العربية أنه حرر الشعوب من نمطية الإعلام التقليدي، وفتح لهم نوافذ الإعلام الحر والمباشر، والذي لا يخضع لأية ضوابط، لكن الإشكالية هي: هل كانت هذه الشعوب مهيأة لممارسة الحرية، وعندها من الأسس التربوية والتثقيفية والضوابط الأخلاقية والأدبية لاستخدام هذا الفضاء بما يضيف ويقوي وجودها وحريتها ويحصنها أكثر؟ لغة السباب والفضائح والألفاظ التي تستخدمها الأغلبية، تدل على أننا لا نعرف مفهوم الحرية ولا نقدّر معاني الاحترام والشفافية وحسن النوايا. نعمة الإعلام الاجتماعي مثلاً أنه أشعل مواسم «الربيع العربي»، لكن هذا الإعلام نفسه سمح لجماعة «الإخوان المسلمين» أن تخطف نتائج هذه الثورات وتتسلط وتمارس الإقصاء لغيرها، لكن يبدو أن الإعلام الجديد كذلك هو الذي تسبب في كشف نواياها وفضح ممارساتها، وسارع في تعجيل نهاية عصرها وأسطورتها. لا شك أن هذا الكم من المستخدمين لوسائل الإعلام الاجتماعي أعطى للغة العربية قوة وحضوراً في هذا العالم، فأصبحت اللغة السادسة، ويومياً هناك ما يزيد على 16 مليون تغريده باللغة العربية على «تويتر»، بينما قبل عامين مثلاً كان لا يمكنك الدخول أو تسجل اسمك بحروف عربية. لكن ما فائدة هذا الحضور الكمي، إذا كان المحتوى الرقمي العربي كما تقول الأرقام متكرر بنسبة 80 في المئة، في حين أن المحتوى الإنجليزي لا تتجاوز نسبة التكرار فيه 15 في المئة؟!