في اللحظة التي كان السقف فيها يتمايل، والأرض تهتز من تحت ألواح الرخام الصلبة، كان مشهد الهروب الجماعي من مكاتب العمل يدعو إلى الدهشة والتأمل معا؟ هي مجرد لحظة وسكنت، هل تحتاج إلى كل هذا الجزع الذي سكننا؟ هل الحياة حقاً نفيسة رغم أننا دائماً ما نذمها ولا نشتهي الاستمرارية فيها كما نردد في حالات؟ يبدو أننا نشعر بقيمتها في لحظات اللاشعور! كيف تعامل الناس لحظتها، بعضهم فر إلى المصاعد وتزاحموا للهروب، تناسوا مفاهيم "الاتيكيت" وعرف الذوق وأقنعة المجاملات التي يحرصون على لبسها في مختلف المواقف. اليوم، جميعهم تخلى عنها عند المصعد، تراصوا وتكدسوا على بابه، ليصيح بهم أحد من بعيد:لا تستخدموها في مثل هذه الحالة، إنها خطر اقفزوا على السلالم، ولكن أين تقع هذه، وكيف الوصول إليها؟ في الحالات العادية لا ننظر إلى اللوحات الخضراء التي ترشدنا إلى المخارج، الآن نبحث عنها بلهفة. أكوام البشر تخرج من كل مكان فجأة، بعضهم من مكاتب العمل ومن يسكن الشقق السكنية المجاورة، بعضهم يقف تحت الشمس خلف راية خضراء متهالكة كتب عليها: نقطة تجمع، والكثير آثر أن يقف تحت ظل جدار المكان الذي غادره. صوت خافت يقول لهم: ابتعدوا عن الجدران في هذه اللحظة، لكن يبدو أن لا أحد يسمعه، أو يريد أن يصدّقه! من بعيد مشهد سقالة بناء طويلة، ما تزال تتحرك.عامل يجلس خلف مقودها المرتفع يسيّرها في الاتجاهات المختلفة، كيف يعمل هذا المجنون في هذه اللحظة، وتحته تلمح أشباه نمل يتحرك على سقف برج يشّيد، من هذه الشركة التي سمحت لهم بهذا الفعل في هذه اللحظة العصيبة، يبدو أنهم لا يبالون بما يدور تحتهم. أحدهم حرك سيارته، وآخر أشار عليه أن يتوقف، لا يجب أن تسير على الطرقات في لحظات الزلزال. موظف شؤون الموظفين كان يبحث حلًا لمشكلته الإدارية المستعصية لحظتها، هل يسمح للموظفين بالانصراف قبل أكثر من ساعة من موعد انتهاء ساعات العمل؟ لا يوجد نص في لوائح العمل كما يتذكر هو، يذكر ذلك صراحة. ماذا عليه أن يفعل، كان لابد أن يستعين بصديق، الآخر لا يرد، يبدو أنه كان نائماً. فعلى الجميع إذن أن ينتظروا الإجابة، أو الخيار الآخر، وهو أن يسجلهم الجهاز في حالات انصراف مبكر، في اليوم التالي سيتم بحث القضية. ماذا يحدث هنا؟ لا خبر سوى خبر قصير وعاجل وصل من خدمة إخبارية خاصة يقول إن زلزالاً وقع وسنوافيكم بالمستجدات. قناة محلية كانت لحظتها مشغولة تبث وصلة غنائية فيها زلزال مختلف، وثانية تكرر حلقة جديدة من مسلسلها اليومي المعتاد، وأخرى تنقل لنا أخباراً ومناظر طبيعية من العالم، ورابعة عليها حوار رياضي ساخن. هيئة الكوارث والأزمات كانت الأكثر حضوراً وفاعلية، حرّكت جهازها في لحظة الحدث، يحمل إجابات لمختلف الأسئلة المتوقعة، ذهب الفريق المختص إلى قاعة مركز الإمارات للدراسات والبحوث يجيب ويوضح للإعلام والجمهور ما الذي حدث وتداعياته، لكن هل كان تجاوب الشبكات الإعلامية وردة فعلها على قدر الحدث وكانت بالسرعة التي تناسب عصر السرعة وقوة قنوات الإعلام الاجتماعي الجديد؟ وهل كان اهتمام وتحرك الجهات المسؤولة الأخرى المعنية أو المساندة في مثل هذه الحالات منسّقة، وتتناسب مع قوة صدمة الحدث؟ هذه قضية أخرى. في لحظة الزلزال توقف إرسال الهواتف لدقائق، وبدأ عالم الحكايات يرسم ويحلل: يبدو أنه تفجير تحت الأرض، لا إنها حرب غواصات نووية تحت البحار، ثالث كان أكثرهم "فهماً": إنها ذنوبكم وإنه غضب الله عليكم، القيامة اقتربت إنها الساعة الأخيرة! عادت الحرارة، وبدأت سلسلة الإشاعات تتوسع وتكبر وتنتشر، وتجد من يصدّقها! في اليوم التالي، عندما صفا الجو وزال الرعب، وجدنا من يبرز في الواجهة ليبرر، شركات وجدت فرصة مجانية للدعاية وأعلنت أن مبانيها مصممة ضد الزلازل، وجهات عديدة قالت إنها على استعداد لأية طوارئ مستقبلية، ومن قال، سهل الكلام في لحظات النعيم والاستقرار. كثيرة هي حالات الزلازل التي تحدث في حياتنا، ودرجات قوتها، وأيضاً مختلفة هي ردة أفعالنا صوبها، بعضها نواجهه، نصمد، أو نقاوم، أو نتجاهل ما يحدث. نصدم أو نحاول أن نلملم دواخلنا، نتجلد أمام الزلزال إذا كان فاجعة، نحلم بالصبر يأتينا وينتشلنا. بعض الزلازل تعلمنا القوة، بعضها يزيدنا وهناً، بعضها يوجعنا. وفي حالات يحطم ما تبقى فينا من عزم أو حلم. حالات الزلازل تحدث كثيراً في عالم السياسة، لكن أصعبها وأكثرها قسوة هي التي تحدث في عالم الاقتصاد. ومع انهيار البورصات وتبخر الأموال قد تدور ببعضنا الأرض ويسقط. لكن زلازل الحالات الإنسانية هو الذي يمكنه أن يدمر الحياة وتظلم معه الدنيا التي نعيشها. كل ما يحيط بنا يمكن أن يعوض ويعود لما كان عليه أو إلى أفضل مما كان، إلا الإنسان يصعب أن نعيده كما كانت دواخله قبل وقوع الزلزال. ثقافة التعامل مع حالات الزلازل تتطلب أن نطبقها في مختلف مراحل الهزات التي تمر علينا في الحياة، كيف علينا أن نستعد ونتعلم ونترقب، ونحصّن دواخلنا بأن الزلزال قد يقع في أية لحظة ومكان وبأية صورة. ثقافة فهم الزلزال تدعونا أن نتمسك بالمبادئ والقيم في اللحظات الصعبة، هناك يكون الاختبار وتقاس درجة التفوق، كيف نحمل ونحمي أسرنا ومجتمعنا والوطن الذي نتغنى بمجده وعشقه في ساعات الرخاء والفرح، نحرسه من توابع الزلزال، ندافع عنه في اللحظات الصعبة. الزلزال علّمنا أن أصعب ما فيه هو ما يولده وما يخلفه من إشاعات، كيف يتقنها البعض في تلك اللحظة القاسية، وتجد جهازاً قوياً قادراً على نشرها وبثها كحقيقة. لو تعلمنا أن نصمت أو نسد آذاننا، أو نحارب ذلك الفريق الملوث الذي يتقن صنعها ونشرها لاستطعنا أن نصمد ونقاوم ونقوى على مختلف هزات الزلازل.