يصعب على السوري حتى وإن كان معارضاً للنظام أن يرى جيوش الولايات المتحدة وحلفائها تقصف بلده وتقتل وتدمر ما تبقى منه، وحتى الذين طلبوا من أميركا وأوروبا تدخلاً بحل عسكري، لن يكونوا فرحين وهم يشاهدون طائرات وصواريخ الغرب تنهمر على بلدهم، وحالهم مثل حال الأم التي تدعو على ولدها العاق، ولكنها تغضب ممن يقول «آمين»، وأعتقد أن هذا الشعور مفهوم، وسيردد كثير من الناس ذاك المثل الشهير «ما الذي أجبرك على المر؟ والجواب: ما هو أمرُّ منه». والأمر والأشد هنا هو ظلم ذوي القربى، وقد بلغ ذروة لا تطاق ولا تحتمل، وقد صبر السوريون عامين ونصف على كل ما لاقوه من تعسف وعنف وقتل، وتحملوا القصف اليومي بالهاون وبراميل المتفجرات التي لا تحدد هدفاً، ثم تحملوا صواريخ «سكود» التي تهدم المباني وتجعل سكانها قتلى وشهداء تحت أنقاضها، وتشرد ملايين السوريين، وتعرضوا لذل النزوح، وهدمت ملايين المنازل، وتقول الإحصاءات إن المنازل التي هدمت في سوريا تفوق ثلاثة ملايين منزل. وأخبرني أحد أصدقائي القدامى من الكاظمين الغيظ، قال «أنتم تتحدثون عن مائة ألف قتيل وشهيد، لكن العدد الصحيح بين من قضوا من المعارضين والمؤيدين ومن الجيش النظامي والشرطة ومن الشبيحة واللجان الشعبية، ومن العصابات بعجرها وبجرها، ومن اللائذين ببيوتهم من الصامتين الخائفين وهم الأغلبية يفوق أربعمائة ألف سوري، فضلاً عن مئات الآلاف من المعتقلين الذين لا يعرف أحد من أهلهم من تمت تصفيته منهم، ومن قضى تحت التعذيب. وكل ما تعرضت له سوريا من عذابات لا مثيل لها في التاريخ كان دفاعاً عن رجل يريد أن يبقى قائداً ورئيساً، غير قادر على الاعتراف بأن الشعب الذي خرج في مظاهراته الأولى لم يكن ثلة من الجراثيم، ولم يكن عصابات إرهابية، وإنما كان مجموعة من الشباب الغاضبين الذين ضاقوا بقبضة الأجهزة الأمنية التي ظلت تضغط على رقاب السورين حتى قطعتها ورمتها في مقابر جماعية. وكانت ردة الفعل الأولى على تظاهرة سلمية في درعا بداية الشر المستطير، وبوابة الدخول إلى الجحيم، ولكن شعراءنا قالوا: لكل داء دواء يستطب به، إلا الحماقة أعيت من يداويها. وكانت الحماقة نتاج صلف وغرور وتكبر وعناد. وها هي ذي الحماقة تستدعي التدخل الأجنبي، والمسؤول عن هذا المصير هو النظام الذي أصر على الاستمرار في إبادة منظمة للشعب السوري الذي لم تتجاوز مطالبه الأولى الإصلاح وإسقاط المحافظ. ولكن العجرفة والصلف لم يسمحا بتقديم أي تلبية حكيمة سوى القتل لمن يرفع صوته مطالباً بحق، وبدا النظام غير قادر على قراءة الواقع والوقائع، مستخفاً بكل القيم والأعراف. وقد نجح في إغراق الثورة السورية بالطائفية بعد أن سمع هتافات الملايين «الشعب السوري واحد»، ونجح في إغراقها بالإرهاب يوم أطلق المجرمين من المساجين. ودهش السوريون حين رأوا بعض قادة الكتائب المتطرفة ضباط صف سابقين في بعض الأجهزة الأمنية، ومهمتهم تشويه صورة الثورة، والقيام بأعمال النهب والسلب والخطف. ثم اختلط الحابل بالنابل، وانقلب السحر على الساحر، وضاعت بوصلة الثورة حين تم اختطافها، ووصلت حماقة النظام مداها الأخطر حين استخدم أسلحة كيميائية تغافل عنها العالم حين كانت محدودة، ولكنه لم يستطع تجاهلها في الغوطة، بل رأى فيها تحدياً للمجتمع الدولي كله. وكانت خطيئة النظام الكبرى أنه فتح الباب للتدخل الأجنبي في سوريا، فقد سارع للاستعانة بروسيا التي وجدتها فرصة لاستعادة حضورها الباهت في العالم، وللتعويض عن غيابها واستهتار أميركا وأوروبا بها في الماضي القريب، وعلى أمل أن تستعيد من خلال القضية السورية مكانة قديمة لها في زمن الحرب البادرة، وأن تعدل خصوصية النظام الدولي وسياسة القطب الواحد عبر الدم السوري، وقد بالغ الروس في تدخلهم في الشأن السوري الداخلي، لدرجة أن قال لافروف «لن نسمح لأهل السنة أن يصوا إلى الحكم في سوريا»! وكذلك استحضر النظام إيران الدولة الدينية القائمة على المذهب الشيعي، والتي دخلت الحرب ضد السوريين تحت يافطة الحسين، والدفاع عن قبور الموتى من أربعة عشر قرناً، مع أنها في الحقيقة تبحث عن امتداد لحضورها في المنطقة، ولو على حساب الدم السوري أيضاً، وقد أمرت وكلاءها في لبنان «حزب الله» أن يدخلوا إلى سوريا غزاة محتلين، وكان إصرار النظام على الاستعانة بالأجنبي على شعبه مبرراً لكثيرين ممن ردوا بالمثل، فطلبوا استعانة بأجنبي آخر، وضاعت سوريا بين نظام يستعين بقوى الشرق ومعارضة تستعين بقوى الغرب، وبين شعب يستعين بالله، وينادي من عامين ونصف في الشوارع والساحات «يا الله ما لنا غيرك». وليت بعض القادة الكبار في القيادة السورية التي تمتلك الصاعق يسهمون في نزع الفتيل، فما يزال بوسعهم أن يجنبوا سوريا تدمير ما تبقى منها، وتشريد من اعتصم ببيته مترقباً أن يقتل تحت أنقاضه، وهو متهيئ للموت على كل حال، فمن لم يمت بصواريخ أميركا، يتوقع أن يموت بصواريخ النظام وغازاته السامة. وبعض الناس يفضلون الموت الوطني على يد جيشهم الباسل! حتى وإن اعتبرهم إرهابيين مثل أطفال الغوطة، ويقول قائلهم «إذا كنت مقتولاً فكن أنت قاتلي»، وبعضهم الآخر يفضل أن يموت بيد الغريب الأجنبي، وأحب إلى نفسه أن يكون ضحية الغزاة بدل أن يكون ضحية الأشقاء. والمصيبة أن يرى الشعب نفسه بين نارين، فإن لم تحدث الضربة التي تغير الوقائع على الأرض، فإن ما سيجده السوريون من ضربات وطنية وإبادة محلية انتقامية قد يجعلهم أثراً بعد عين، والنظام لا يملك سوى التهديد بتدمير البلد وقد صار شعاره الرسمي «شبيحة للأبد». وإن حصلت الضربة الغربية فهي الساحقة الماحقة التي لن تبقي ولن تذر. ويخطئ من يظن أن سوريا ستنجو إلى شاطئ الأمان بعد الضربة أو بدونها، فلا شيء مهيأ لتأمين المستقبل، وهذه كارثة كبرى أمام السوريين، ولا أرى خلاصاً أفضل من أن يغالب كبار قادة النظام عناده وجبروته، فيجنبوا ما تبقى من سوريا غير مدمر، مصيراً لا يعلم إلا الله مداه، والشعب كله يحمل النظام مسؤولية الضربة والضياع، وقد كان شعار مظاهرات الأمس «الطغاة يجلبون الغزاة». فإن أصر النظام على الاستمرار دون أي استجابة حكيمة عاقلة فلسان الشعب يقول «إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً، فما حيلة المضطر إلا ركوبها».