على رغم اللحظة المتأخرة التي ولد فيها تعبير «الشارع السياسي» فقد ظل كامناً أو خافتاً ومتداولاً بشكل غير مباشر في كثير من الممارسات السياسية، التي حملتها اصطلاحات راجت وتبلورت وتحددت معالمها، واستقرت في بطون القواميس والمعاجم والموسوعات، مثل «المشاركة السياسية» و«التنشئة السياسية» و«الرقابة الشعبية» و«العقل الجمعي» و«الضمير الجمعي» و«الرأي العام» و«الجماهيرية». والاصطلاح الأخير، وهو الأقرب إلى مصطلح الشارع السياسي، يقصد به وفق معطيات النظرية الماركسية أي حركة سياسية تسعى إلى تعبئة الجماهير، كأفراد وليس كأعضاء في جماعة اقتصادية اجتماعية معينة، ضد السلطة التي يعتقد أنها تخضع لسيطرة أصحاب المصالح الخاصة، أو يعتقد أنها فائقة القوة أو الهيمنة. وقد بدأ مصطلح «الجماهير» أو «الكتلة» Mass في اللاهوت المسيحي بمعنى القداس الذي يحضره شعب الكنيسة وهو محتشد في كتلة واحدة، ثم انتقل في القرن السابع عشر إلى علم الفيزياء ليعني «كم المادة المتجمعة»، وتسرب بعدها إلى العلوم الاجتماعية ليعني تحول الجماهير إلى كتلة واحدة منصهرة، ذات مشاعر واحدة، وذوق وإرادة واحدة، قد تكون واعية أو لاواعية، لكنها تعمل في اتجاه واحد، وازداد رسوخاً مع الثورة الفرنسية التي لعبت فيها كتلة الجماهير الحاشدة دوراً محورياً. واكتسب المصطلح دلالته الكاملة في أكثر من حقل من المعارف الإنسانية مع ظهور المجتمعات الحديثة ذات الكثافة السكانية الكبيرة، ومع ظهور وسائل الإعلام القادرة على الانتشار السريع والواسع، والثورة الصناعية التي جعلت ملايين أو ربما مليارات البشر يستهلكون سلعة واحدة. وبدأت تظهر الحاجة إلى قياس الرأي العام أو استطلاع مواقفه منذ وقت مبكر، حيث أسست جمعية في بريطانيا عام 1937 باسم «المشاهدة الجماهيرية» Mass Observation لتطوير الدراسات العلمية التي تقف على طبيعة السلوك الاجتماعي، من خلال الاستعانة بعدد من المشاهدين المتطوعين، الذين دونوا خبراتهم الميدانية وملاحظاتهم العميقة وانطباعاتهم الخاطفة حول بعض العادات والتقاليد. وقد انقطع نشاط هذه الجمعية خلال الحرب العالمية الثانية، ثم عاودت نشاطها ووسعتها لتشمل مراقبة حركة الأسواق التجارية. وبمرور السنين ظهرت الشركات والمؤسسات التي لا عمل لها سوى إجراء استطلاعات للرأي العام حول مختلف القضايا. وقد صارت المجتمعات الديمقراطية الحديثة تحمل اسم «المجتمع الجماهيري» Mass Society ، فيما مَثلت الجماهير رافداً ملموساً من روافد القوة السياسية في ظروف معينة ببعض بلدان الدول النامية. وتعد حركة «البيرونيين» في الأرجنتين، المنسوبة إلى الرئيس بيرون، نموذجاً جلياً لهذا، وكذلك الحركات الشعبية التي ظهرت في شرق ووسط أوروبا أثناء فترة تخلصها من قبضة الاتحاد السوفييتي، وقيادتها نضالاً سلمياً من أجل التخلص من حكومات مستبدة تابعة لموسكو. وقبل ذلك بعقود كان للناس حضور مختلف في المشهد السياسي من خلال الانخراط في مقاومة مسلحة ضد الاحتلال أو ضد أنظمة الحكم الديكتاتورية فيما عرف باسم «الحرب الثورية» أو «الجبهات الشعبية» Popular fronts التي شكلها يساريون أو راديكاليون ليبراليون من يسار الوسط، وكذلك التحالفات ضد الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين. وهناك جبهة تشكلت في إسبانيا عام 1936 بوصفها تجمعاً انتخابياً، وأدى انتصارها إلى اشتعال الحرب الأهلية. وهناك أخرى تشكلت في أستونيا عام 1988 للدعوة إلى الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي. وتوجد أيضاً «الحركة الشعبية» Populism مثل جماعة «إرادة شعب» التي ضمت مجموعة من المفكرين الروس الذين عاشوا وسط الفلاحين، وأثمرت جهودهم في تأسيس «الحزب الثوري الاجتماعي» الذي قمعه لينين عام 1918، لكن مثيلاتها في بولندا وبلغاريا ورومانيا لاقت نجاحاً لافتاً. وظهر حزب في الولايات المتحدة اسمه «الحزب الشعبي» الذي نادي في تسعينيات القرن التاسع عشر بالإصلاح الزراعي. كما يوجد سياسيون شعبيون، لديهم قدرة فائقة على مغازلة الجماهير، وجذب انتباهها وتعاطفها. ووصل الأمر بالقذافي في ليبيا إلى أن يعلن «الجماهيرية» نمطاً خاصاً للحكم، ينطلق من تصور نظري يرى فيها، وفق ما جاء في كتابه الأخضر: «نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، تمارس فيه كل الجماهير بدون استثناء السلطة مباشرة دونما وسيط، وتملك فيه الجماهير أسباب القوة تطبيقاً لمقولة السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب»، ولكن على المستوى العملي تم الانحراف الشديد عن هذا التصور، ومورست التسلطية والطغمائية وحكم الفرد على نطاق واسع وعميق، حتى أطيح بالقذافي عن الحكم وقتل في عام 2011. وأطلق عمرو حمزاوي على الشارع السياسي اسم «المزاج الشعبي» وهو مزاج إن كان قد حرس الديمقراطية من خلال حرص أغلب الناس على الذهاب إلى صناديق الاقتراع في البلدان الديمقراطية فإنه تسبب خلال بعض الحالات في انتكاس الديمقراطية وتجاوز تنظيماتها نظراً لفقدان الثقة في المؤسسات القائمة عليها. فالنازيون والفاشيون في ألمانيا وإيطاليا تباعاً وصلوا إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات، ولكنهم انقضوا على الديمقراطية وسط احتفاء الشارع بنزعتهما القومية والتسلطية. وفي أواسط القرن العشرين قاد المزاج الشعبي إلى ميلاد نظم عسكرية تسلطية في إسبانيا والبرتغال والكثير من جمهوريات أميركا اللاتينية. ولم تقد حركات التحرر الوطني والانقلابات العسكرية والانتفاضات والاحتجاجات خلال النصف الثاني من القرن نفسه إلى التحول نحو الديمقراطية في دول عديدة في آسيا وأفريقيا بسبب قبول المزاج الشعبي للحكومات العسكرية، أو لفشل في ضبط آليات الديمقراطية مثل حالة روسيا أثناء حكم يلتسين، ومصر خلال حكم مرسي، والخبرات المعاصرة لرومانيا وبلغاريا. وهناك حالات لا يلح فيها الشعب طالباً للديمقراطية مكتفياً بالإنجازات الاقتصادية والاجتماعية مثل الصين. وقد ساهم التطور الهائل في وسائل الاتصال وظهور الإعلام الحديث وتقدم الصناعة في زيادة الحضور الشعبي في المشهد العام، ولم تعد السياسة، فكراً وممارسة، مقتصرة على نخب ضيقة، وعلى من يلتف حولها من المنشغلين بالقضايا العامة. وصار الوعي بتأثير السياسة على الحياة الخاصة للفرد عميقاً ومتجذراً. فكثير من النظم التسلطية حاولت عبر قرون أن ترسخ تصورات تفصل بين الشأن السياسي وبين شؤون الحياة التي تمس الفرد بشكل مباشر، أو تلك التي تتعلق بتلبية احتياجاته المادية الأساسية، ولكن هذه اللعبة لم تعد تنطلي على قطاعات عريضة من الناس، أصبحت موقنة أن ثقافة الحاكم ونوع الحكم وكفاءة وولاءات الشخصيات التي تدير الدولة لها علاقة مباشرة بحياة أفراد الشعب، ولا جدال في ذلك.