يُعتبر الكائن البشري من المخلوقات الاجتماعية التي تعتمد بشكل حيوي على الظروف الاجتماعية والحضارية والمؤسسية في حياته. وبالتالي، يتم توجيهنا لاستكشاف التدابير الاجتماعية التي تؤدي بنا إلى حقوق الناس وتلبية طموحاتهم ضمن المنفعة العامة. وهنا سأورد أموراً تبدو بنظري من الحقائق البديهية، وهي على صلة بفئة مثيرة للاهتمام من المبادئ الأخلاقية، والتي تتراوح بين مبادئ عامة جداً، على غرار الحقائق البديهيّة، التي يتوجّب علينا تطبيقها على أنفسنا واعتمادها للآخرين، وبين عقائد أكثر تحديداً على غرار تكريس الجهود في سبيل الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن المواقع الجيّدة للانطلاق كتاب «عن الحرية» الكلاسيكي بقلم جون ستيوارت مل. وتفيد عبارة مقتبسة منه بأن «المبدأ الرئيسي السامي، الذي تصب نحوه كلّ الحجج المقدّمة في هذه الصفحات، يوصل فوراً إلى المفهوم القائل بأن الأهمية القصوى والأساسية للتنمية البشرية تكمن في تنوّعها الكبير». وقد شعر آدم سميث أنه لا يفترض أن يكون إرساء سياسات إنسانية من الأمور الصعبة، وقد لاحظ في كتابه «نظرية الشعور الأخلاقي»، أنه «بغضّ النظر عن مدى الأنانية التي يفترَض أن يكون عليها الإنسان، تنطوي طبيعته على بعض المبادئ الواضحة، التي تجعله مهتماً بأقدار الآخرين». لقد بُنيت الليبرالية الكلاسيكية على أنقاض أفواج مفكري الرأسمالية، إلا أن الالتزامات والطموحات الإنسانية لم تمت. وقد عمد رودولف روكر، وهو مفكر وناشط أناركي من القرن العشرين، إلى التشديد على أفكار مماثلة. ووصف ما أسماه «توجهاً محدداً نحو تنمية الجنس البشري عبر التاريخ»، تتوق نحو «التبلور الحر وغير المقيّد بأيّ عراقيل لكل القوى الفردية والاجتماعية في الحياة».ومعلوم أنّ الأناركيّة هي جزء من شريحة أكبر من الأفكار والأفعال الاشتراكية التحرّرية، التي تشمل الإنجازات العملية التي حقّقتها إسبانيا الثورية في عام 1936، ويتّسع نطاقها لتشمل المؤسسات المملوكة للعاملين، والمنتشرة اليوم في عدد كبير من الدول الأخرى. ويشار إلى أن التحرّرية من النوع الأميركي تختلف كثيراً عن التحرّرية التقليديّة، التي تتقبّل مبدأ إخضاع الشعب العامل لأرباب الاقتصاد، وإخضاع أيّ كان للنظام المقيّد والصفات المدمرة التي تتصف بها الأسواق. ومن المعروف أن الأناركيّة تتعارض مع الدولة، وتدافع في آن عن «الإدارة المنظمة للأمور التي تهدف لخدمة مصلحة المجتمع»، وفقاً للكلام الذي صاغه روكر، بل هي اتحادات واسعة النطاق، تضم مجتمعات ومقرات عمل تحكم ذاتها بذاتها. واليوم، غالباً ما يقوم الأناركيون المتفانون في سبيل تحقيق هذه الأهداف بدعم سلطة الدولة لحماية الشعب، والمجتمع، والأرض بحد ذاتها، من الخراب الذي يعيثه رأس المال الخاص، الذي يكون مرتكزاً في مكان واحد، مع الإشارة إلى أنّ هذا الأمر لا ينطوي على أيّ تناقضات. وفي تحرك العمال الريفيين البرازيليين، يسود كلام عن «توسيع نطاق الطوابق داخل القفص»، كما حصل فعلياً على امتداد سنوات عديدة. ويمكننا توسيع نطاق المشهد، لنرى قفص المؤسسات الحكومية كوسيلة حماية من الوحوش الكاسرة التي تجول في الخارج، أي المؤسسات الرأسمالية التي تكرّس نشاطها لتحقيق الربح الخاص، وفرض سيطرتها. وفي كتاب «الثراء والنفوذ: عدم المساواة الاقتصادية والقوة السياسية في الولايات المتحدة الأميركية»، يكشف العالم مارتن جيلنز أن الشعب الأميركي بمعظمه محروم فعلياً من حقوقه. وخلافاً لذلك، وفقاً لما يكتبه روكر، من شأن نظام ديمقراطي فعلاً أن يتوصّل إلى طابع يقوم على «تحالف مجموعات حرّة، تضم رجالاً ونساء، وترتكز على عمالة تعاونية وإدارة منظمة للشؤون، لخدمة مصالح المجتمع». لم ينظر أي كان إلى الفيلسوف الأميركي جون ديوي على أنه أناركي. لكن يكفي أن نراجع أفكاره، فقد أقر بأن «القوة تكمن اليوم في السيطرة على وسائل الإنتاج والتبادل، والدعاية، والنقل، والتواصل. وكل من يملكها يسيطر على الحياة في البلاد، حتى لو بقيت الأشكال الديمقراطية قائمة فيها. وإلى أن تصبح هذه المؤسسات بين أيادي العموم، ستبقى السياسة بمثابة الظل الذي تفرضه الشركات الكبرى على المجتمع». ومن الطبيعي جداً أن توصل هذه الأفكار إلى رؤية عن مجتمع يستند إلى سيطرة العمال على المؤسسات المعنيّة بالإنتاج، وفقاً لما تصوّره مفكرو القرن التاسع عشر، لاسيّما كارل ماركس، لكن أيضاً جون ستيوارت مل، الذي يحظى بقدر أقل من الشعبيّة. وفي المناظرات حول الميثاق الدستوري، حذّر جيمس ماديسون من مغبة هذه المخاطر. والملفت أن ماديسون الذي وقع اختياره على النموذج الإنجليزي وقرر اعتماده، لاحظ قائلاً: «في إنجلترا في أيامنا هذه، وفي حال كانت الانتخابات مفتوحة أمام فئات الشعب كلها، لما كانت مقتنيات أصحاب الملك آمنة، وسرعان ما كان قانون زراعي سيأتي إلى الوجود»، ويقوّض حقّ الملكية. ويتّفق المجال العلميّ عموماً مع العالم جوردن وود في تقييمه القائل بأن «الدستور شكّل ضمنيّاً مستنداً أرستقراطياً مصمماً للسيطرة على التوجهات الديمقراطية في تلك الحقبة».وقبل ظهور ماديسون بوقت طويل، أقر أرسطو بوجود المشكلة ذاتها مع الديمقراطية، حيث استنتج أن هذا النظام هو من أفضل أشكال الحكومة أو ربما أقلها سوءاً. لكنه أقر بوجود شائبة، قائلاً إن الكتلة الشعبية الكبيرة التي تضم الفقراء قادرة على استعمال حقها في التصويت للاستيلاء على ممتلكات الأثرياء، وهو أمر لن يكون منصفاً. وفي سنواته الأخيرة، نجح توماس جيفرسون في رصد الطبيعة الأساسية للصراع القائم، الذي لن ينتهي قبل وقت طويل. وأعرب عن مخاوف جدّية بشأن التجربة الديمقراطية ومصيرها، وفرّق بين «الأرستقراطيين والديمقراطيين».فالأرستقراطيون هم «الأشخاص الذين يخشون الشعب ولا يثقون به، ويتمنون تحويل كل النفوذ في أيديه إلى أيادي الطبقات الأعلى». بينما الديمقراطيون هم فئة «تجد لنفسها قواسم مشتركة مع الشعب، وتثق به». واليوم، قد يعطي الأشخاص الذين خلفوا «أرستقراطيي» جفرسون تبريرات حول هوية الأشخاص الذين يجب أن يقوموا بدور توجيهي: أي المثقفين التكنوقراطيين الذين توجههم السياسة، أو المصرفيين والمسؤولين في الشركات. إنها الوصاية السياسية التي تحاول التقاليد التحررية الصادقة تفكيكها ومعاودة تطويرها انطلاقاً من القاعدة الشعبية، والعمل على تبديل القطاع الصناعي و«التحوّل من نظام إقطاعي إلى نظام اجتماعي ديمقراطي» يستند إلى سيطرة العمال، ويحترم كرامة المنتِج باعتباره شخصاً صادقاً، بدلاً من النظر إليه كأداة بأيدي الآخرين».