في تداعيات المشهد المصري تشتبك الكثير من القراءات التي تعيدنا مرة بعد أخرى لمراجعة سيرورتنا الحضارية ومآلاتنا الدينية والفكرية والسياسية، فبعد سقوط تجربة الإسلام السياسي يكتمل انفراط عقد السقوط للتيارات الرئيسة التي قادت الفكر العربي منذ بدايات القرن الماضي؛ لم تنجح التجارب القومية العربية، ولم تفلح النظريات الاشتراكية في إسعافنا، واصطدم العلمانيون المتحفزون للحاق بركب المدنية الغربية بالعلائق القوية للمجتمعات العربية بالدين والتراث والتاريخ، ويبدو أن هنالك إشكالية ما في قدرتنا على تحويل منظوماتنا الفكرية إلى برامج عملية تقود المجتمعات، وبعد السقوط لا يتبقى لدينا سوى التمترس خلف مزاعم المظلومية وعقلية التآمر وثقافة الشتم. لقد سقط «الإخوان المسلمون» لأسباب يعرفون جيداً أن لا علاقة لها بـ«المؤامرة» التي يدعون تعرضهم لها من قوى إقليمية، فقد سقطوا لأنهم ببساطة لم يقنعوا المواطن المصري بقدرتهم على إدارة البلاد، وبدلا من إعادة تقييم تجاربهم، عادوا للتخندق خلف ادعاءات المظلومية القديمة، ومؤخراً خرج علينا شيخهم يتحدث عن «عداء الإمارات لكل حكم إسلامي»، وللأسف فقد سُمح له أن يُطلق هذه التهم الجزاف من على منبر الجمعة الذي يفترض أن يكون موضعاً لكلمة الخير الجامعة لا الشتيمة التي لا تجلب سوى الفتنة والتفرقة. يجب التوقف عن استخدام الدين كأداة في الصّراع على السلطة أو في الصّراع بين الدول، لأن ذلك سيؤدي إلى الصدّ عن الدين نفسه، ومن شأنه أن يفرق المجتمعات ويهدد بتفكك الدول على أسس طائفية؛ ما يعمق الضعف ويعيق التنمية، فكيف يمكن لجهة ما أن تدعي احتكار تمثيل الإسلام؟ وأن تزعم أن قراءتها للدين هي القراءة الأكثر صحة؟ ألا يعيدنا ذلك إلى الاستبداد الذي تدعو هذه الجهة الثورة للتخلص منه؟ الإسلام في الإمارات بخير، فلدينا قيادة تؤمن بالتدين المعتدل الحضاري الذي يرى أن الإنسان المسلم يتقاسم مع أخيه الإنسان مشتركات كثيرة، وأن الدين إنما جاء رحمة للعالمين. وتقوم رؤية الإمارات على تعميق الهوية العربية الإسلامية بمفهومها الحضاري الواسع المنفتح على المنجزات البشرية، ومَنْ يزور الإمارات لا يمكنه أن يتعامى عن آلاف المساجد ومراكز تحفيظ القرآن، والمؤسسات الخيرية، وفي الوقت نفسه يلحظ دور العبادة للمذاهب والأديان الأخرى بكامل حريتها، وكذلك البنوك الإسلامية، بل إن الإمارات أصبحت «مركزاً لتطوير الاقتصاد الإسلامي» على مستوى العالم أجمع. إنها قراءة عقلانية للدين هاجسها النهوض بواقع مجتمعاتنا، وتحقيق تنمية مستدامة فيها، من خلال بناء إنسان مسلم قادر على الإضافة للمنجزات الحضارية البشرية، وليس فقط تحديد علاقته بالإنسان والكون بتصنيفات تجعل المسلم منعزلا ومستهلكاً، فالحكم المسلم هو الذي يراعي مصالح العباد ويحقق العدل بينهم وفق رؤية مقاصدية للدين، وتمضي الإمارات قُدُماً في تحقيق ذلك، من خلال تجفيف منابع الكراهية في الفكر الديني، وتعميق ثقافة التسامح وعدم الإكراه، ودعم الشعوب المسلمة في المنطقة لتحقيق أهدافها التنموية والمساهمة في تأهيلها وتمكينها، والرعاية المستمرة للمؤسسات الدينية والحضارية الإسلامية في مصر والمغرب وباكستان وأفغانستان وشبه القارة الهندية والغرب، كما جهدت في جمع التراث الإسلامي من شتى أرجاء المعمورة وعملت على تحقيقه ونشره. من الطبيعي أن لا تخضع الإمارات لابتزاز من يكيلون الاتهامات جزافاً، وأن تبقى دولة عربية مسلمة منفتحة على الحضارة الإنسانية، تقدم نموذجاً مشرقاً للعالم عن الإسلام والمسلمين، أما تنظيم «الإخوان» الذي ينتمي إليه القرضاوي فإنه يعاني من ازدواجية الخطاب؛ ففيما كان يتهم الأنظمة العربية بالعمالة والخيانة بسبب علاقة بعضها بإسرائيل، ويطالبها بقطع كافة أشكال هذه العلاقة و«تحرير فلسطين التاريخية كاملة»، أبقى حكمهم في مصر على العلاقة مع إسرائيل ولم يقُمْ بأي خطوة مغايرة لما كانوا يتهمون به الأنظمة العربية. وبينما يتباكون الآن على الديمقراطية، تزخر مؤلفاتهم بما لا يدع مجالا للشك أنهم لا يقبلون بها نهجاً للحكم، بل هي أداتهم للوصول إلى السلطة فقط. أما القرضاوي نفسه، فالحديث يطول عن معاييره المزدوجة وتناقضاته وانتهازيته، ومع هذا يدعي احتكار قراءة الإسلام؛ ففي الوقت الذي وقف فيه ضد تدخل الولايات المتحدة والدول الغربية لتحرير الكويت من الغزو العراقي معتبراً أن ذلك استعانة بـ«أعداء الأمة»، أجاز تدخل كل القوى الدولية لضرب ليبيا، متناسياً أمر «الاستعانة بأعداء الأمة» هذه المرة، ثم إن القرضاوي لم يحدد مفهوم «الحكم الإسلامي» الذي تقف الإمارات ضده، فإذا أراد أن يحتكر تمثيل الحكم الإسلامي، فإن ذلك يعني أنه لا يعترف لا بالقراءات الأخرى التي تقدمها بعض جماعات الإسلام السياسي، ولا يعترف بالحكومات المسلمة في المنطقة، وهذا ينطوي على نزعة استئصالية أدت إلى تخويف جميع القوى السياسية في المنطقة من قراءة «الإخوان» ونهجهم. وخلاصة القول: إنه ليس في خطاب القرضاوي و«الإخوان» إلا ما يثير الشفقة. د. ابتسام الكتبي رئيسة مركز الإمارات للسياسات وأستاذة العلوم السياسية المساعد بجامعة الإمارات