تشهد دولة الإمارات هذه الأيام احتفاليتها الوطنية 43، وإنْ كانت هذه المحطة تعني الفرح بالوطن، فإنها تتيح للكثير منا فرصة التوقف عند معاني الاتحاد الذي قامت عليه دولة الإمارات، وكيف استطاع الشيخ زايد، رحمه الله، أن ينقل الاتحاد من مشروع دولة إلى دولة النموذج، وهي بذلك فرصة للانتقال من الاحتفال إلى الوعي بالاحتفال. الاحتفال بذكرى الاتحاد فضيلة مطلوبة، لكن إدراك معاني الاتحاد ودوافعه وغاياته مطلوب أيضاً، ذلك أن المؤسسين الذين أرسوا دعائم الاتحاد لم يكونوا أصحاب إرادات سياسية فحسب، بل كانوا أيضاً أصحاب مبادئ ورؤى بعيدة المدى؛ ولذلك استطاعوا ربح رهان الاتحاد؛ لأنهم جمعوا بين العمل والوعي بالعمل، ولا شك في أن المطلوب منا جميعاً هو الاستمرار على هذا النهج، أي أن تكون علاقتنا بالاتحاد علاقة وعي بدوافعه وغاياته؛ لأنّه السبيل إلى إدامة استحكامه وتطويره سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وهذه غاية مصيرية في منطقة تحفها مخاطر الفوضى والتّفكّك. إن التّحدي الأكبر أمام صناع القرار في دولة الإمارات اليوم وغدا هو ترسيخ الوعي بالمرحلة في عقول الناشئة ونفوسهم، والانتقال بهِمَمِ المواطنين الإماراتيين من نمط عيش اعتاد التنعم بمكاسب الاتحاد، إلى نمط عيش يعتمد الانشغال بالحفاظ على هذه المكاسب، والاستعداد الدائم للدفاع على استمرارها، ومشاركة المجتمع الإنساني في فوائدها، ويعني هذا أن يحمي الإماراتيون نموذجهم ويجتهدوا في إقناع الآخرين بجدارته وتماسكه. وأعتقدُ أن هذا التحول لن يحدث إلا إذا أدرك المواطن الإماراتي أن بلاده أصبحت اليوم مساهماً فاعلاً في المجتمع الدولي، وأن هذه المساهمة تستلزم بالضرورة رفع سقف التحديات أمامنا جميعاً، دولةً ومجتمعاً. نعتقد أن الوعي بالاتحاد، والوعي بالمرحلة لن يستقر في الوجدان المجتمعي إذا لم يتشرّب الإنسان الإماراتي معاني نموذجه الوطني، النموذج الذي قام على دعامتين أساسيتين، هما: الإرادة والحكمة. وهما الدعامتان اللتان قامت عليهما رؤية رجل استثنائي هو الشيخ زايد، رحمه الله، إنه الرجل الذي أثبت للعالم أن بإمكان العرب تجاوز عجزهم إن توافرت فيهم إرادة التغيير وحكمة قيادة التغيير، فكان الشيخ زايد بحق معلماً وقائداً، لأنه: لم يشعر قطُّ بالتّعارض بين هويته العربية الإسلامية وقدرته على الاندماج في الهوية الإنسانية؛ ولذلك كسب تحدي انفتاح الإمارات على العالم، بما يُكرِّس قوة الدولة من خلال تشبيك مصالحها مع بقية المجتمعات والثقافات، فوضع بين الأجيال الجديدة كل أدوات الصمود أمام الحروب الثقافية ومشاريع استئصال الهويات. كما أنه آمن بقدرته على الفعل؛ لذلك صرف عمره في بناء النموذج وإبراز معالمه؛ لأنه أيقن أن مهمة الجيل القادم هي مواصلة المسيرة على مستويات أكبر وأعمق داخلياً وخارجياً، فكان الهدف هو أن تصبح الإمارات عامل قوة جامع لبقية الدول العربية والإسلامية، وعامل بناء داخل المجتمع الدولي. وأَيقَنَ الشيخ زايد أنّ تكريم الإنسان يبدأ بتوفير حاجاته الأساسية، من صحة وتعليم ومسكن وخدمات، وهذا اليقين هو الذي منع الشيخ زايد، رحمه الله، من التعامل مع الإماراتيين على أنهم رعايا، فاختار أن يتعامل معهم كأبناء، فجعل قضية كرامتهم قضيته الشخصية، وحرص بشدة على توزيع عائدات الثروة بينهم بعدالة وإنصاف. وفي مستوى آخر، عامل العرب على أنهم إخوانه، والناس جميعاً على أنهم أصدقاؤه، فكان حريصاً على مشاركة أولئك وهؤلاء في منافع الثروة؛ ولذلك لم يكن له، رحمه الله، أعداء، فاستحق أن يكون صديق الشعوب وحكيم العرب. إن نموذج دولة الإمارات هو بالأساس رؤية جمعت بين الإرادة والحكمة، فبعض الدول تملك مثل ثروات الإمارات، وربما أكثر، لكن شعوبها لا تستفيد من تلك الثروة، كما أن دولاً أخرى، مثل سويسرا مثلاً، تملك ثروات أقل بكثير مما تملكه دولة الإمارات، لكن حكمة حكامها ضمنت للجميع حياة كريمة لا تقل عن مستوى عيش المواطن الإماراتي. وعليه، لابُدَّ للإماراتيين أنْ يدركوا أنَّ نموذجهم أكبر بكثير من مسألة رفاهية مادية توفرها الثروة الوطنية، وتضمنها حكمة القيادة الحاكمة، والإيمان بهذا النموذج هو السبيل الوحيد للوعي بمعاني الاتحاد، وبتحديات المرحلة التي نعيشها اليوم، كما أنه السبيل الجدير بجعل يوم الثاني من ديسمبر يوماً للإرادة والحكمة، وبذلك نكون عبرنا من الاحتفال إلى الوعي بالاحتفال.