يختلف الإسلام في نصه المؤسس الذي نزل من السماء وحياً قائماً بيننا حتى قيام الساعة عن ذلك التصور المخترع والمنتحل، أو على الأقل المختلف، الذي صنعه بعض المسلمين، والذي يريد المتطرفون والجاهلون منا أن يجعلوه هو الدين مع أنه من صناعة البشر وتدبيرهم الذي قد لا ينبع في كل الأحوال من الخيرية والورع، بل ما تسيره المصالح والمنافع والأهواء، في الغالب الأعم. والإسلام في نصه منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية، إنه يواجه الحياة البشرية كما هي بعوائقها وملابساتها الواقعية، ويواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد بحلول عملية تكافئ واقعيتها، ولا ترفرف في خيال حالم ورؤى مجنحة لا تجدي عن واقع الحياة شيئاً. فالمثالية الواقعية، والواقعية المثالية، هي من أبرز خصائص هذا الدين، فهو لا يضع مثلًا روحانية عسيرة التطبيق تهمل ضرورات الإنسان وواقعه المادي، وتشد الناس إلى أعلى شداً بلا هوادة فتعلقهم في الفضاء، كما تصنع بعض الديانات الأخرى، ولا هو حين يلتفت إلى مطالب الجسد وعالم المادة يُبقي الإنسان في نطاق ضروراته، ويقعد به عن التحليق في الآفاق العليا التي يتحقق فيها المثال، بل يأخذ بهذه وتلك في آن واحد على توازن واتساق ومن ثم تلتقي فيه المثالية التي لا تهمل الواقع بالواقعية التي لا تهمل المثال. ومثالية الإسلام تظهر في أنه دين يوجب العدل ويحرم الظلم ويجعل من تعاليمه السامية وقيمة الرفيعة من المودة، والرحمة، والتعاون، والإيثار والتضحية وإنكار الذات ما يلطف به القلوب ويؤاخي بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهو بعد ذلك يحترم العقل الإنساني ويقدر الفكر البشري ويجعل العقل والفكر وسيلتين من وسائل التفاهم والإقناع، وهو لا يرغم أحداً على عقيدة معينة ولا يكره إنساناً على نظرية خاصة بالكون والطبيعة أو الإنسان. والواقعية الإسلامية في بناء الإنسان تتمثل في النظر لهذا الكائن في ضوء قدراته الحقيقية سواء المادي منها أم المعنوي دون مبالغة، فالإنسان ناقص وإمكاناته العقلية والعضلية محدودة أعطيت له بالقدر الذي يؤهله ليكتشف ظواهر الكون وقوانين الحياة، ويتيح له أن يقوم بعبء الخلافة في الأرض. والمثالية تتمثل في أن المنهج الإسلامي، الذي جاء به القرآن الكريم، إذا طبقه الإنسان بحذافيره سيصل حتماً إلى مرحلة الكمال الإنساني ويكون «الإنسان الأصلح» في كل شيء. والتاريخ الإسلامي مليء بالنماذج البشرية التي وصلت إلى تلك الدرجة، ولا يظهر ذلك جلياً في مرحلة الجيل الذي عاش في الصدر الأول من الإسلام فقط، فالزمان يجود كل حين بهذه النماذج العظيمة التي تصبح كذلك بالتمسك بدين الله، والسير على نهجه دون ريب أو التباس، ودون إفراط ولا تفريط. إن واقعية الإسلام ليست شيئاً وهمياً، وإنما هي حقيقة واضحة، تنبع من إدراك الإسلام لطبيعة النفس البشرية: «ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد». ومثالية الإسلام حقيقة كذلك، من خلال تأكيده على ضرورة تحقيق الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والخيرية أو العمل من أجل النفع العام. وقد شهد تاريخ المسلمين منذ أوله نماذج بشرية اقتربت من الكمال الإنساني أو بلغته، ولا سيما من بين المتصوفة الزاهدين العابدين، وكذلك من فهموا أن الدين هو فعل الخير في الأرض والعمل ما بعد الموت، وذهبوا عن الحياة بعد أن كدحوا فيها على قدر استطاعتهم، ولم يظلموا ولم يتركوا خلفهم أثراً سيئاً. ففترة النبوة والخلافة الراشدة صنعت الكثير من السير الذاتية التي تعد مثالًا يحتذى به في كل شيء، فكثير ممن كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو من كانوا ضمن «رجال حول الرسول» حسب تعبير الكاتب خالد محمد خالد، كانوا نماذج فريدة، كثير منا يعدونها مرجعاً في الأخلاق العظيمة، ويضعونها نصب أعينهم دائماً في سلوكهم اليومي، ويبحثون في تفاصيل الحياة الحاضرة بكل أزماتها ومشكلاتها الروحية والسلوكية عما يتشابه مع ما واجهه رجال هذا الزمن. لكن أصحاب الأخلاق الحميدة والنفوس الورعة لا يقتصرون على رجال الجيل الأول، ففي كل الأزمنة والأمكنة هناك دوماً الصالحون، كما أن لكل زمن واقعه المختلف، فإن تمسكنا بالمثل العليا للإسلام في القيم العامة ومقاصد الشرع وروح الشريعة فإننا يجب أن نبحث عن أساليب مختلفة تلائم واقعنا المعيش، وهذا ما لا يريد أن يفهمه المتطرفون والمتشددون والمتزمتون والمغيبون، الذين تعيش أجسادهم بيننا وتعيش عقولهم في الأزمنة الغابرة.