عدت لتوي من بيروت بعد أن حضرت ندوة «مستقبل التغيير في الوطن العربي» التي نظمها «مركز دراسات الوحدة العربية» في الفترة من 9 إلى 12 نوفمبر الجاري امتداداً لاهتماماته وجهوده العلمية حول الشأن العربي وذلك بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية المعروف برعايته لهذا النوع من الأنشطة الفكرية التي تنطوي على حوارات موضوعية في القضايا المهمة التي تمس أمن المنطقة واستقرارها. وقد جاء انعقاد الندوة في وقت بالغ الأهمية بعد مرور قرابة خمس سنوات على بدء أحداث ما سمي «الربيع العربي» وما ترتب عليه من تداعيات أدت إلى أوضاع بالغة الخطورة في عدد ليس بالقليل من الدول العربية الأمر الذي أفضى إلى المأزق الراهن الذي يمر به النظام العربي ككل. واستند مخطط الندوة إلى نهج جمع بين بحث كل من القضايا الكلية والجزئية من أجل التشريح العلمي الدقيق للأوضاع العربية الراهنة وصولاً إلى السبل المثلى لمواجهتها فتضمن المخطط بحوثاً عن المشهد العربي الراهن وآليات التفكيك التي تتبعها القوى الخارجية لمزيد من تفتيت النظام العربي، وخطة طريق للخروج من المأزق العربي. وتضمن من ناحية ثانية بحوثاً عن الأوضاع الراهنة في الدول العربية كافةً كل على حدة فيما عدا دول الأطراف الثلاث الصومال وجيبوتي وجزر القمر. وكذلك بحثاً عن تداعيات ما عرف بـ«الربيع العربي» على القضية الفلسطينية. وقد أظهرت الندوة مدى خطورة الأوضاع العربية الراهنة سواء من المنظور الكلي الذي يشير إلى درجة الشدة العالية للصراعات داخل النظام وإن تغير نموذجها من غلبة الصراعات البينية العربية كما كان الوضع قبل بداية ما عُرف بـ«الربيع العربي» إلى غلبة الصراعات الداخلية في بعض البلدان العربية. ويشير كذلك إلى تهديد الهوية العربية وتفاقم الاختراق الخارجي للنظام العربي، وعجز إطاره المؤسسي المتمثل في جامعة الدول العربية، وتغير أولوياته لحساب مواجهة الإرهاب على حساب القضية الفلسطينية. أو من المنظور الجزئي الذي أظهر تعثر عمليات بناء الدولة وإقامة الديمقراطية وتحقيق التنمية والعدل الاجتماعي في الدول العربية كافة وإن بدرجات متفاوتة. وتميزت الحوارات في جلسات الندوة التي بلغ عددها إحدى وعشرين جلسة بالتنوع في وجهات النظر إذ حرص المركز على دعوة ممثلين للمواقف الفكرية والسياسية كافة الموجودة في الساحة العربية الأمر الذي أضفي طابعاً ديمقراطياً وموضوعياً على مداولات الندوة مما مكن من إدارة حوارٍ صحي هادئ في معظم الأحيان بين وجهات النظر المختلفة، وبعث الأمل في إمكان التوصل إلى توافق أو على الأقل تقارُب بين وجهات النظر هذه، وهو ما يدفع إلى التفاؤل بشأن حدوث الأمر نفسه على صعيد السياسة العملية إن حسنت النوايا وساد الحرص على المصالح العربية والوطنية وتراجع التدخل الخارجي في الشأن العربي. وقد كانت مشاركة نماذج مشرفة للمرأة العربية والشباب العربي من العلامات البارزة في الندوة، ولم تكن هذه المشاركة بمجرد الحضور وإنما شاركت الباحثات والشباب بتقديم بحوث والتعقيب على أخرى والمشاركة النشطة والمتحمسة في المناقشات الأمر الذي يمثل عاملاً مهماً يغذي التفاؤل بالمستقبل ويدفع إلى الإصرار على ضرورة العمل على زيادة حضور المرأة والشباب في الملتقيات الفكرية العربية كلها. ومن ناحية أخرى يمكن القول إن واحدة من أهم حسنات هذه الندوة أنها جددت الصلة بين ممثلين للنخبة الفكرية العربية التي أصبحت لقاءاتها على هذا النطاق الواسع قليلة. وقد شارك في الندوة ما يربو على مئة مشارك لم يلتق كثير منهم منذ سنوات طويلة فتجددت الصلات الإنسانية التي تتجاوز المواقف الفكرية والسياسية المختلفة وهي عنصر مهم في تعزيز الحوار الموضوعي البناء بين أعضاء هذه النخبة. كما ثارت على هامش الندوة أفكار بالغة الإيجابية تتعلق بضرورة أن يكون للنخبة العربية المثقفة رأي واضح فيما يجري على الأرض العربية يتم نشره إعلامياً وطرحه سياسياً على أوسع نطاق ممكن أملاً في أن يساعد ذلك على استكشاف الطريق إلى حل المعضلات العربية المستعصية انطلاقاً من الإيمان بأنه لا يجوز أن تتداعى الجهود الدولية من كل حدب وصوب على مشكلاتنا بدعوى العمل على حلها بينما تكون مصالح الأطراف المتدخلة هي الأساس في جهود الحل، بينما تقف الأطراف العربية عاجزة أو حائرة إزاء أوضاع تنذر بأخطار داهمة على المستقبل العربي. ------------ أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة