كتبنا مراراً أن المجال أو الحقل السياسي هو ملك عمومي بامتياز لا يمكن تقسيمه، أو تبنيه من قبل فئة أو أخرى باسم الدين أو باسم أي شعار آخر، وقد يظن البعض أن الانتخابات التي تعرفها أقطار بعد ذهاب بعض النظم السابقة هي قطيعة مع النزعة الشمولية السالفة، التي تئد التنوع والتعدد، والقبول بمبدأ الاختلاف كقاعدة للعقد السياسي الديموقراطي، وهذا كلام صحيح. ولكن ماذا يقع إذا لم تستبطن بعض الأحزاب السياسية فكرة الدولة، وفكرة المجال السياسي العام، وماذا إن لم يوطن الخاص والعام في نسيجه الثقافي والنفسي الوعي السياسي الصحيح؟ إن الديموقراطية ليست فقط صناديق الاقتراع، وإنما هي أيضاً وعي وثقافة وسلوك وإيمان راسخ واستبطان لفكر الدولة وتوطينها في النسيج الثقافي والنفسي. لقد عانى النظم السابقة في العديد من الدول العربية كتونس وليبيا ومصر من فقدان الشرعية السياسية فثار عليها الأولون والآخرون لأن الإذعان الاضطراري للقوة العمياء التي تمارسها نظم استبدادية مسألة وقت لا محالة، وغياب الثقة بين الحكم والمحكوم، أي فقدان الشرعية عند الأول مؤذن بخراب الحياة السياسية ومؤسساتها فتجف ينابيع الحياة السياسية الطبيعية.. وبعد ذلك انتقلت بعض المجتمعات كتونس وليبيا ومصر إلى بناء دول ما بعد انهيار الأنظمة الاستبدادية، أي دخلت في مرحلة الانتقال الديموقراطي. ودول أخرى كالمغرب ثبتت وجذرت انتقالها الديموقراطي الذي بدأ منذ زمن بعيد. في حين أن دولاً أخرى كالجزائر ما زالت تعاني من ويلات بسيكولوجيا الحرب الضروس في تسعينيات القرن الماضي بين الجيش والحركات الإسلامية وما تبع ذلك من تأسيس لمجال سياسي تحت المراقبة، وعندما انتقلت بعض من تلك الدول إلى خانة الانتقال الديموقراطي، وصلت سفينة السياسة إلى واد غير ذي زرع، فيها ريح صرصر عاتية ما زالت تأتي إلى يومنا هذا على الأخضر واليابس.. فلم ينهض العقل السياسي بالمجتمع، ولم تعط قراءة جديدة لدور المؤسسات والدولة في هذا المجال السياسي الجديد، ولم تقم الأحزاب السياسية وللأسف الشديد بالدور التاريخي الذي يجب أن تقوم به. فصناديق الاقتراع تكون هي الحكم الفيصل، وتكون الأحزاب السياسية هي الممثل والمجسد للطلبات الاجتماعية، وتكون هي المتبارية داخل حلبة الصراع السياسي، وكل حزب يجب أن يكون جزءاً من اللعبة السياسية كباقي الأحزاب، ويجب أن يكون هناك إجماع على قواعد اللعبة السياسية، وأن يكون هناك قانون أسمى وهو الدستور المتوافق عليه، وإلا برزت الفتن ما ظهر منها وما بطن. ويجب أن تكون هناك قوانين تنظيمية تصدر من تحت قبة البرلمان، من ممثلي الشعب الذين ارتضاهم لينوبوا عنه في التسيير وإصدار القوانين.. ولكن بإمكانك أن تصلي صلاة الجنازة على وفاة البلاد إذا لم تستبطن الأحزاب السياسية قاعدة تحويل النظام السياسي الجديد إلى ملكية عمومية باسم مفهوم حكم الشعب بالشعب بعيداً عن الاحتكار السياسي والاستئثار الفئوي أو المذهبي باسم الدين، أو باسم مبدأ ما أو شعار ما لا يحظى بالإجماع الاجتماعي أو القبول داخل قواعد العلوم السياسية المقارنة، وإلا ظهرت شمولية أخرى تسيء إلى المبدأ أو المرجع الذي تستند إليه أكثر مما تدافع عنه، ويكفي الرجوع إلى التجربة العراقية الحديثة لتبين ذلك. فالحزب السياسي هو عبارة عن نسق يضم مجموعة من الأفراد لهم تصور فكري مشترك ويعملون على تعبئة الرأي العام لصالحهم، من أجل الوصول إلى السلطة. وانطلاقاً من هذا التعريف الموجز يمكن استخلاص أربعة عناصر مكونة للحزب: أولًا، عامل الفكر أو الأيديولوجيا التي يتطبَّع بها الأفراد ويؤمنون بها إيماناً راسخاً تجعلهم يصوغون مشروعهم السياسي. ثانياً: عامل الأهداف والمقاصد التي يناضل من أجلها المحزِّبون. ثالثاً: عامل تنظيم العمل الذي يقوِّي لبِنات الحزب وتماسكه. رابعاً: عامل السَّعي الدؤوب للوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات المحلية، فالحزب خلافاً لمنظمات المجتمع المدني هو سياسي بالدرجة الأولى وغاية وجوده هي السَّعي دائماً للوصول إلى دواليب الحكم، لكي يُجسِّد فيه مشروعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، إلى جانب أحزاب معارِضة تتربص به الدوائر في البرلمان والصحف والمؤتمرات الحزبية والنقاشات التلفزيونية والعمومية، والنُّظُم السياسية في تلك الجمهوريات التي تمر بحالة تحول تكون بتراء عندما لا تكون فيها أحزاب قوية، وتزداد هذه الصفة سوءاً إذا لم يلبس الحزب لباس الديموقراطية الداخلية من القاعدة إلى القمة، فالديموقراطية والديموقراطية الحزبية عاملان لمعادلة واحدة، وإذا تتبعت أحوال دول عربية كثيرة تعرف مخاضات متوالية ستجد أن ضعفها يكمن في ضعف أحزابها السياسية، وأن فشلها في بناء الدولة الحديثة يُلخص في غياب أو فشل الأحزاب. ------------ * أكاديمي مغربي