أطلّ علينا وزير النَّقل العِراقي الجديد، ومِن أرض النَّاصرية حيث سومر القديمة، بمعلومة عجيبةٍ غريبةٍ: «أول مطار في كوكب الأرض أُنشئ في هذا المكان، إنه أول المطارات قبل خمسة آلاف سنة». قال ذلك بمناسبة تشييد مطار النَّاصرية الدُّولي، قاطعاً بحقيقته، وذَكر المصدر على أنه كتاب «التَّاريخ يبدأ بسومر». لم يطرأ على بال الوزير أن يواجه بالسُّؤال أو الاعتراض، فالواقفون مِن حوله ذهلوا مِن عِلم الوزير في تاريخ حضارة بلاد سومر، وإلا فالسُّؤال: هل طائرات سومر، قبل خمسة آلاف عام، تطير وتهبط في مطار واحد، أم تقوم باستعراض ثم تعود، أم تهبط في مطارات دولية أُخرى، لم تعلن عنها لا اليونان ولا الصِّين ولا الهند ولا مصر، وهذه بلدان حضارات قديمة أيضاً؟! استند الوزير إلى ما جاء عن «عربات الآلهة»، لأحد الواهمين، بل والضاحكين علينا، مع أن في أديان العِراق القديمة، يوجد ما عُرف بناقلات الأرواح لا الأجساد، فلدى المندائيين تخطيطات لمثل هذه النَّاقلات، لم يتعد شكلها القارب المعروف بالأهوار، على هيئات الشَّمس والقمر والزَّهرة، كسائر الأَرواح الفلكية (دراوور، الصَّابئة المندائيون). لكنَّ المندائيين لم يحددوا مطاراً أو مركبة فضائية، إنما شأنهم شأن الاعتقادات بالصُّعود إلى السَّماء، وهذا معروف عند الدِّيانات كافة. إنها قضية روحية ليست طائرة ولا مطاراً ولا راداراً. مثلما نجد في «رسائل إخوان الصَّفا» صعود هرمس المثلث بالحكمة روحياً، وهو إدريس النَّبي، إلى فلك زُحل (3/ الرِّياضي). قادني تصريح الوزير إلى مراجعة «جغرافيا الوهم» لزينَه، الذي جمع فيه، من التراث العربي الإسلامي، أخبار المدن العجيبة، وكيف أن مخيلة الإخباريين نفذت إلى ثقافتنا، وأخضعت العقل، ومنها خبر «معترك الجِنِّ». يقول الإخباري: «إنه سمع أصواتاً في الجو وهمهمات، فإذا بغيم أحمر، يحمل كائنات أمثال النَّاس والدَّواب، وبأيديهم سيوف وقسيُّ». فإذا كان ذلك مصدقاً، فما المانع مِن أن الجِنَّ شيدوا مطاراً واخترعوا طائرة قبل التَّاريخ، وخبرها عند الوزير! يذكر ابن بطوطة (ت779هـ) قَدمَ أبينا آدم، على أنها غاصت في الصَّخرة، وظل أثرها في جبل سرنديب من الهند (الرِّحلة)، ونقل صاحب الرِّحلة أخباراً لا تقل عجائبية عمَّا نحن بصدده، لكنه لم يدعِ وجود الطَّائرة والمطارات قبل الأخوين رايت (1903). غير أن الأعجب من هذا أن يُدفن آدم في تربة النَّجف وحواء في تربة جدة. ولدى المؤرخ المسعودي (ت346هـ) عجائب العجائب أيضاً، عن مدن شيدت من النُّحاس، وأخرى من الذَّهب الخالص، وتماثيل تقوم بدور الحراسة، وأن خبر إرم ذات العِماد مشهور، شُيدت على طراز الجَنَّة. يدفعنا خبر الوزير وعجائبيته إلى مراجعة قصة صاحب قاموس «الصِّحاح» إسماعيل الجوهري (ت386هـ)، لما أصابته وسوسة، واشتدت رغبته بالطَّيران، «فانتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد إلى سطحه، وقال: أيها النَّاس إني علمتُ في الدُّنيا شيئاً لم أُسبَقْ إليه فسأعمل للآخرة أمراً لم أُسبَقْ إليه، وضمَّ على جنبيه مصراعي بابٍ وسَّطهما (تأبطهما) بحبلٍ وصعد مكاناً عالياً مِن الجامع، وزعم أنه يطير، فوقع فمات» (الحموي، معجم الأدباء). مَن يقرأ كتاب «بحار الأنوار» للمجلسي (ت1699م)، أحد أبرز فقهاء الفترة الصَّفوية، لا يستغرب أي عجيبة، عابثة في العقول، تُلقى مِن منبرٍ مِن منابر اليوم، ففيه الطَّيران بلمح البصر، والأقلام التي تكتب بلا كاتب. كذلك نجد كُتب تاريخنا الإسلامي كافة ملأى بالعجائب والغرائب، وعلى وجه الخصوص، عندما تتناول فترة ما قبل الإسلام والصَّدر الأول منه، ككتب السِّير. لكن لا يُحسب كلُّ توقع، أو أمنية، على أنها خُرافة، فللعقول آفاقها في التوقع، إذا نشطت في النَّقد والتَّمحيص، كأبي العلاء (ت449هـ) وحلمه بقراءة العميان: «كأن منجم الأقوام أعمى/ لديه الصُّحف يقرأها بلمس» (اللزوميات)، وبديع الزَّمان الأَسْطُرلابي (ت534هـ) شرح دورة الماء في الطَّبيعة: «كالبَحْرِ يُمطرُه السَّحاب ومالهُ/ فَضْلٌ عليه لأَنه مِن مائهِ» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان). إنه زمن عراقي عجائبي بامتياز، يبدأ من «الجكليتة» التي عالج بها الشَّيخ الأمراض المستعصية، إلى دخول الأميركان لتعطيل ظهور المهدي، وها هي الطَّائرات تقلع وتهبط قبل خمسة آلاف عام. لماذا يحشرون أنفسهم، ولم يكتفوا باختصاص المنصب أو الدِّراسة؟ أقول: أمن الضَّرورة أن يكون وزير النَّقل مؤرخاً في الطَّيران، أو عالماً بآثار الأولين؟! وفق الله مخترع «غوغل» لقد زاد في عدد المختصين المزيفين في كلِّ مجال. أعود لإخوان الصَّفا: «الإنسان قادر على أن يقول خلاف ما يَعلم، ولكن لا يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل» (13/الرِّياضي). فهل عقل ما قاله وعلمه الوزير فنجان، أم أراد زيادة نغمة في طنبور الخُرافة؟! يا للهَوْل مما نحن فيه.