مرَّ النظام الدولي في رحلة تبلوره وتشكله بالعديد من المراحل والمحطات التي تختلف من حيث المبادئ والقوى الفاعلة والأطر التنظيمية. وفي الوقت الذي يُنظَر فيه إلى مؤتمر «وستفاليا» عام 1648 الذي أنهى عقوداً من الحروب الدينية في أوروبا بأنه البداية الحقيقية لنشوء هذا النظام لأنه أقرَّ مبدأ «السيادة الوطنية» وأبعد الكنيسة عن التأثير في السياسة، فإن «معاهدة فيينا» عام 1815 كانت إيذاناً بمرحلة جديدة في مسار النظام الدولي وتنظيم العلاقات الدولية بشكل عام، ووضع مبادئها التي لا تزال باقية حتى الآن. وقد نشأت معاهدة فيينا من المؤتمر الذي عُقِد بين الدول الأوروبية خلال الفترة ما بين سبتمبر 1814 ويونيو 1815، وسعى إلى حل الإشكاليات التي أفرزتها حروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية التي استمرت نحو 25 عاماً، وتفكُّك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وفيه اجتمعت القوى الكبرى على مستوى قارة أوروبا للمرة الأولى لمناقشة القضايا المطروحة، بدلاً من الاعتماد على المبعوثين والرسائل المتبادَلة، فدشَّن المؤتمر بذلك مرحلة جديدة في الدبلوماسية الدولية. ومثلت معاهدة فيينا 1815، علامة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية والنظام الدولي، بالنظر إلى المبادئ التي أقرَّتها، وفي مقدمتها مبدأ «توازن القوى» الذي عبَّر عن نفسه في إعادة تشكيل ميزان القوى بشرق أوروبا بين روسيا وبروسيا لضمان عدم قيام أيٍّ منهما بالسيطرة على شرق القارة، وتهديد الأمن الأوروبي كلِّه، وتحجيم قوة فرنسا حتى لا تقوى مرة أخرى على تهديد بقية الدول الأوروبية، وتوحيد هولندا وبلجيكا لإيجاد قوة عسكرية شمال فرنسا، إضافة إلى تعزيز الدور النمساوي من خلال منحه نفوذاً جديداً في إيطاليا، حتى تكون هناك إمكانية للتدخل العسكري في فرنسا، إذا استدعت الظروف ذلك. وقد أسهم هذا المبدأ -توازن القوى- في تكريس الأمن والاستقرار في الساحة الأوروبية، ومنع قيام حرب أوروبية واسعة النطاق لما يقرب من مئة عام (1815-1914)، تخلَّلتها حروب قصيرة على رأسها «حرب القرم» و«الحرب البروسية- الفرنسية» عام 1870، وهذا بلا شك يؤكد أن المعاهدة وضعت الأسس القوية للسلام في أوروبا من خلال التسويات التي قامت بها. ومن المبادئ المهمة الأخرى التي أقرَّتها معاهدة فيينا، مبدأ «الحياد» الذي وُضِعت سويسرا بموجِبه في حالة حياد دائم، وهو الوضع الذي لا يزال مستمراً حتى الآن، ومبدأ تحريم تجارة الرقيق، وحرية الملاحة في الأنهار الدولية. وفضلاً عن ذلك، فإن المؤتمر الذي أفرز معاهدة فيينا، كان تجربة للتلاقي والنقاش المباشر بين هذه القوى وجهاً لوجه من خلال ممثلين عنها، فكان نقلة نوعيَّة في تاريخ الدبلوماسية الدولية، ومهَّد لعقد المزيد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي أنشأت النظام الدولي الحديث، وأسست العديد من المنظمات الدولية التي تقود العلاقات الدولية خلال الفترة الحالية. ويذهب خبراء العلاقات الدولية إلى القول إن مؤتمر فيينا -الذي اتفقت الدول المشاركة فيه على وضع نظام لترتيب المبعوثين الدبلوماسيين بوضع السفراء ومبعوثي البابا في الدرجة الأولى، والوزراء والمفوَّضين ومَن هم في حكمهم في الدرجة الثانية، والقائمين بالأعمال في الدرجة الثالثة- كان من المؤتمرات الدولية التي أدَّت دوراً كبيراً في التأسيس للقواعد الخاصة بتنظيم العلاقات الدبلوماسية بشكل عام. وكثيراً ما يقارن المؤرخون ودارسو العلاقات الدولية بين مؤتمر فيينا 1815 ومؤتمر فرساي في 1919 الذي أنهى الحرب العالمية الأولى رسمياً، ووضع ترتيبات ما بعدها. فقد نجحت القوى المشاركة في مؤتمر فيينا في خلق نظام عالمي قائم على توازن دقيق للقوى واحتواء المهزوم بدلاً من إذلاله، ومن ثم استمر هذا النظام لنحو قرن كامل من الاستقرار، عدا بعض الحروب الصغيرة أو المحدودة كما سبقت الإشارة. ولذلك ينظر وزير الخارجية الأميركي الأسبق والمنظِّر البارز في مجالات العلاقات الدولية، هنري كيسنجر، في كتابه الذي أصدره في عام 2014 بعنوان «النظام العالمي»، إلى المفاوضات التي أدت إلى معاهدة فيينا باعتبارها نموذجاً لكيفية الوصول إلى السلام بعد فترات الحروب والصراعات الطويلة والمدمرة. لكن على الجانب الآخر، فإن الترتيبات التي أقرها مؤتمر فرساي لم تستطع الصمود سوى لنحو عشرين عاماً لأنها تضمَّنت في طيَّاتها بذور انطلاق الحرب العالمية الثانية عام 1939، بالنظر إلى بعض بنودها التي عَدَّتها ألمانيا ظالمة ومجحفة في حقها وتهدف إلى إذلالها، وهذا خلق البيئة التي أفضت إلى ظهور الزعيم النازي هتلر، ولعبه على وتر الظلم الذي لحق بألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى لجمع الشعب حوله ومن ثم أخذه ألمانيا ومعها العالم كله إلى حرب عالمية ثانية مدمرة راح ضحيتها ملايين البشر. لقد دعت وزارة الخارجية البريطانية إلى دراسة المفاوضات التي أفضت إلى معاهدة فيينا 1815 للاستفادة منها قبل مؤتمر السلام في باريس 1918 الذي أنتج معاهدة فرساي، لكن مقررات فرساي لم تستطع أن تمنع قيام حرب عالمية ثانية، لأن أحداً لم يستوعب دروس مفاوضات فيينا وأسباب نجاحها في الحفاظ على السلام العالمي لقرن كامل من الزمان، وأول وأهم هذه الدروس عدم إذلال المهزوم وإنما احتواؤه وإعادة تأهيله، وهذا ما تنبه له الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية من خلال المنهج الذي تعاملوا به مع ألمانيا واليابان والذي قام على إعادة إعمار البلدين ودمجهما في المنظومة الدولية على أسس جديدة، ومن ثم أصبح البلدان إضافة قوية إلى حركة التقدم العالمي، وبدلاً من أن يكونا مصدراً لزعزعة الاستقرار في العالم، أصبحا مساهمَين فاعلَين في مجالات التنمية والسلام والاستقرار على المستوى الدولي. وتكشف المقارنة بين معاهدتي فيينا وفرساي عن الدور الذي يمكن أن يقوم به الزعماء والسياسيون والقادة في صنع التاريخ وتوجيه أحداثه نحو السلام أو الحرب، فقد لعب رجل الدولة النمساوي، كليمانس فون مترنيخ، الذي رأَس مؤتمر فيينا دوراً أساسياً في نجاح المؤتمر في تحقيق السلام وطيّ صفحة الصراع في أوروبا لقرن كامل من الزمن، لأنه لم يبحث عن الانتقام من فرنسا، في حين كانت الروح الانتقامية التي سيطرت على رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنسيو (أو كليمنصو) الذي رأَس مؤتمر السلام في باريس عام 1918 سبباً أساسياً من أسباب خروج مؤتمر فرساي بما خرج به من مقررات انطوت كلها على الانتقام من ألمانيا إلى أقصى حد ممكن. ولذلك يشير المؤرخون إلى أن فرساي افتقرت إلى شخصيات مثل مترنيخ الذي أطلق عليه لقب «أمير الوفاق»، ولذلك كان قدر العالم أن يقاسي حرباً عالمية أخرى مدمرة. يحتاج العالم اليوم إلى العودة لمعاهدة فيينا 1815 والتطورات والمفاوضات التي أدت إليها، والشخصيات التي وقفت وراءها وأسهمت بقوة في إنجاحها للاستفادة منها، واستيعاب دروسها، حيث يواجه عالمنا تحديات وجودية كبرى فيما تسود الخلافات والصراعات بين قواه الكبرى المؤثرة، ما يحول دون توافق دولي في مواجهتها والتصدي لها. لقد تساءل البعض بعد وصول الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى السلطة في عام 2008 وإعلانه توجهاته التوافقية تجاه العالم: هل يكون أوباما هو مترنيخ القرن الحادي والعشرين؟ لكن سياسة الولايات المتحدة الأميركية تحت حكم أوباما لم تتجاوز الشعارات في حديثها عن إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس من التعاون والتوافق، بل إنها، أي الولايات المتحدة الأميركية، بدأت في الانكفاء على ذاتها والانسحاب التدريجي من الشؤون العالمية ومن ثم التخلي عن مسؤولياتها كقوة كبرى عليها دور مهم في صنع الاستقرار والسلام في العالم. وإلى أن يأتي مترنيخ جديد يستطيع أن يحقق التوافق العالمي المنشود أو الحد الأدنى منه، سوف تظل معاهدة فيينا 1815 والمفاوضات التي أفضت إليها، مخزناً للدروس والخبرات التي يمكن أن يستلهمها الباحثون عن استقرار العالم وإدارة صراعاته.