شهدت صناعة الصحافة تطورات عديدة في السنوات الأخيرة، لعل أكثرها تحدياً هو الطابع المتحيز والمسبب للشقاق لوسائل الإعلام في العالم.. فما بين اتهام الصحافة بالتحيز الصارخ من قبل الرئيس الأميركي الجديد والاتهامات المضادة من الجانب الآخر، باتت بيئة الصحافة المطبوعة أو المسموعة اليوم أشبه بحرب بالوكالة للأيديولوجيات السياسية المعارضة. وتتزامن هذه الظاهرة مع انتشار منصّات الأخبار الرقمية وتزايد عدد قنوات «الأخبار الحقيقية» المسيسة والمناهضة للسياسات الاجتماعية والحكومية والتي تبث محتواها من خلال موقع «يوتيوب» معتمدة على ميزانيات منخفضة. ونتيجةً لذلك، تراجع مستوى ثقة الجمهور بمصداقية الصحافة ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في دول كثرة حول العالم، فقد أشارت دراسة حديثة في المملكة المتحدة إلى أن هناك انخفاضاً في نسبة الأشخاص الذين يثقون بدقة الأخبار إلى 43% مقارنة مع 50% خلال الاثني عشر شهراً الماضية. وليست منطقتنا بحال أحسن في هذا المجال، حيث نشهد اليوم تراجعاً ملحوظاً في مستويات الثقة من قبل القرّاء والمتابعين للأخبار. وهنا نتساءل، هل بإمكان صناعة الصحافة أن تنهض بمصداقيتها من جديد وتستعيد الثقة التي فقدتها؟ بالطبع نعم، ولكن ذلك مرهونٌ بقدرة الأقلام الصحفية النزيهة ذات المهنية العالية على إزاحة الدخلاء على عالم الصحافة والتصدي لهم، وهو ما تقوم به فعلياً العديد من المؤسسات الإعلامية حالياً التي أخذت على عاتقها هذه المسؤولية، لاسيّما تلك التي أدركت أن ما كان يعتبر تهديداً في الماضي- بما في ذلك وسائل الإعلام الاجتماعية والرقمية - بات يمثل اليوم فرصة ثمينة لا بد من الاستفادة منها بالشكل الصحيح. وفي الوقت الراهن، يواجه القرّاء تحديات عديدة في الوصول إلى الحقائق وسط الكم الكبير من الأخبار المفبركة والتقارير الصحفية غير الدقيقة، وهو ما يزيد من صعوبة الوثوق في مصداقية الأخبار عموماً اليوم أكثر من أي وقت مضى. وفي ظل مثل هذه الأجواء التي يعتريها الغموض والشك، تبرز الأهمية الكبيرة للصحافة الاستقصائية التقليدية القادرة على رصد الحقيقة وفضح الأكاذيب، والأهم من ذلك وضع المسؤولين تحت عدسة مجهر المحاسبة. فالتقارير الصحفية المبنية على دراسة مستفيضة ودلائل واضحة باتت سلعةً نادرة وقيمة في وقتنا الحاضر. بَيْد أن ما ينشره الصحفيون من أخبار سواء في المطبوعات أو الإذاعات أو المدوّنات، لا تزال تعتبر في نظر العديد من القراء، صادقة وحقيقية، وبالطبع سيتم تداول ومشاركة تلك المعلومات مع أفراد العائلة والأصدقاء والزملاء. ومن هذا المنطلق، تقع على عاتق وسائل الإعلام مسؤولية كبيرة للتأكد من صحّة الأخبار ومصداقيتها قبل نشرها. وعليه، لا بد أن يكون الصحفي، بغض النظر عن نوع الوسيلة الإعلامية التي يعمل لديها، مؤمناً بقيمة وأهمية الصدق والالتزام بمعايير النزاهة والشفافية والإنصاف في إعداد التقارير والأخبار. ومع ذلك، فإنه في بيئة العمل الرقمية التي نشهدها اليوم، حيث تخضع الأخبار للتحديث لحظة بلحظة، أصبح توفير المعلومات المدروسة جيداً والقابلة للتحليل، مسألة غاية في الصعوبة. وهنا تبرز أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه المؤسسات المعنية الكبرى، بما فيها twofour54، في قيادة جهود تصحيح مسار القطاع لكي يؤدي عمله بالكفاءة والمهنية المرجوة. ولا شك في أن العودة إلى الأسس الصحيحة يتطلب سياسة تحريرية نزيهة وشفافة، ورغبة صادقة في تأدية المهام بحيادية وإنصاف، أي التريث وإعطاء مساحة للتفكير، والتأكد من مدى صحّة الوقائع قبل نشر أية تقارير ومقالات صحفية، بمعنى يجب دراسة أي رأي وإفساح المجال للرأي الآخر. كما يعني أن يقتضي كمبدأ أساسي الابتعاد عن الاستنتاجات المبنية على مجرد آراء ما لم تكن مدعومة بالحقائق. ونحن بحاجة ملحّة لتطبيق هذه المعايير سريعاً، ولهذا تعمد العديد من قنوات الأخبار الإلكترونية على نشر الحقائق عبر الأخبار والنشرات العاجلة والمستجدة بشكل مقتضب بأسلوب التغريدات. لقد دأبت المحطات الإذاعية والتلفزيونية لبعض الوقت، على رصد التطورات ومواكبة الأحداث عبر الاستناد إلى محتوى تحليلي مدعوم بالآراء والتعليقات، إلا أننا نشهد اليوم وبشكل متزايد قيام المطبوعات التقليدية بالشيء ذاته. وصحيح أن الثورة الرقمية قد أتاحت المجال لانتشار الأخبار الكاذبة والمفبركة، غير أنها في المقابل أعطت الفرصة لازدهار الصحافة النوعية التي تصل إلى أعداد متزايدة من القراء الذين يفضلون متابعة الأخبار والأحداث والمستجدات كافة، عبر الإنترنت. وفي ظل اهتمام القراء بالأخبار الفورية والموثوقة عبر مختلف المنصّات الرقمية، تحرص مؤسسات الصحافة المطبوعة المخضرمة على توسيع نشاطها إلكترونياً لتلبية متطلبات قرائها. وصحيح أن تلك المؤسسات قد شهدت تراجعاً كبيراً في عدد قراء مطبوعاتها اليومية لسنوات عديدة، إلا أن حضورها في الفضاء الإلكتروني يساهم في تعويض تلك الخسائر. وفي حين أن الساحة الإعلامية تفيض بالمنافذ الإخبارية العالمية التي توفر حلولاً وتطبيقات إخبارية على مدار الساعة مجاناً، نجد أن هناك زيادةً في أعداد القراء المستعدين للاشتراك في الخدمات المدفوعة للحصول على أخبار صحفية مدعومة بتحليلات وتعليقات نوعية من قبل صحفيين مرموقين. وتشير الإحصاءات الحالية إلى أنه من بين كل أربعة أشخاص هناك شخص يقرأ جريدة إخبارية إلكترونية كل أسبوع. وعليه، في ظل أجواء عدم الثقة هذه، يبدو أن هناك شهية كبيرة ورغبة متزايدة للأخبار المدروسة والمكتوبة بشكل جيد. ويعتبر الحفاظ على أعلى مستويات الجودة المهنية ونقل المعلومات والأخبار استناداً إلى وقائع مثبتة، أمرٌ بالغ الأهمية اليوم لتعزيز مصداقية القلم الصحفي والتغلب على الأخبار الزائفة. ويكمن جزءٌ من الحل في توفير البرامج التدريبية المناسبة والتركيز على مسألة «الدقة» التي تعتبر من أهم العناصر التي لا بد من توفرها في المادة الصحفية لكي تكون جديرة بالنشر. ومن أجل تنشئة وإعداد جيل جديد من المواهب الصحفية المتمكنة، ينبغي على الجامعات والكليات التي تُدرِّس الصحافة أن تضاعف تركيزها على جانب «الجودة» في إعداد المادة الصحفية دون الرضوخ لضغوط بيئة الإعلام الرقمي الحديثة التي تتسم بوتيرة عملها السريعة. كما يعتبر التعاون بين وسائل الإعلام والمهنيين العاملين في القطاع الإعلامي أمراً مهماً لا بد من أخذه بعين الاعتبار، بالإضافة إلى التأكيد دائماً على أهمية توفر عنصري الحقيقة والموضوعية، باعتبارهما من أكثر ما يهم في هذا المجال. ويتعيّن على المؤسسات الإعلامية أن ترتقي بمعاييرها المهنية إلى أعلى المستويات وأن تتحلى بأكبر قدر ممكن من المسؤولية وتفي بهذه المعايير من خلال رعاية ودعم وتطوير مهارات كوادرها إلى جانب دعم المواهب الشابة لكي تتمكن من شق طريقها للنجاح مستقبلاً ولعب دور إيجابي في دفع عجلة تطوير وازدهار القطاع. توفر البيئات الإعلامية، مثل twofour54، مناخاً يحفز الإبداع ويشجع الصحفيين وخبراء مجال الإعلام الاجتماعي والمبدعين على التعاون والعمل معاً للارتقاء بالقطاع نحو آفاق أرحب من التميز والتقدم، ويمثل التعاون من أجل صحافة تتمتع بأعلى درجات المهنية والجودة، أحد الأهداف الرئيسة التي تسعى twofour54 لتحقيقها. وتزدهر twofour54، كونها بيئة تجارية، على الجودة، حيث لا تستطيع الأخبار الكاذبة الاستمرار طويلاً. كما تتميز بيئتها بكونها تدعم الصحفيين المستقلين لتحقيق النجاح والتقدم في مجال عملهم ما دام يعكس شغفهم في تلبية معايير المهنية والمصداقية، ويرتكز إلى الحقائق. وفي عالم الإعلام الحديث الذي يتسم بسرعة وتيرة انتشار الأخبار، يعتبر المحتوى التحريري الدقيق، القائم على التقصي والبراهين، مطلباً أساسياً يتوق إليه القُرّاء والمستمعين والمشاهدين، وفوق هذا، هو أساس البحث عن الحقيقة.