كثر الحديث عن المتغيرات في المواقف الدولية من القضية السورية، وقد هبت قبل شهرين تقريباً عاصفة متغيرات كادت تنسف ثوابت الشعب السوري، وتعلن هزيمته أمام الديكتاتورية، وتعلن انتصاره على معارضيه وعلى كل الدول التي ساندت الشعب السوري، وقدمت له دعماً يتفاوت في نوعه وحجمه، وران على بعض السوريين شعور بالوجوم، وبعضهم أصابه اليأس، ولكن طاقة الشعب توهجت فخرجت التظاهرات في العديد من المواقع السورية في الداخل، وفي العديد من العواصم في العالم، وصدرت البيانات القوية التي عبرت عن تمسك الغالبية العظمى من الشعب ببيان الرياض 1 وما أعلنه من ثوابت، وأهمها رحيل الأسد وعصابته عن السلطة وتقديمهم إلى العدالة. وبعض البيانات حملت تهديداً للهيئة العليا للمفاوضات بنزع التفويض الشعبي عنها إذا هي ضعفت أو تنازلت عن مطالب الشعب. ولم يكن أعضاء الهيئة العليا للتفاوض بحاجة إلى إنذار فهم جميعاً متوافقون على أن ثوابت مؤتمر الرياض هي الحد النهائي لما يمكن أن يقبل به الشعب، وبعضهم (وأنا منهم) نرى أنها في الحقيقة لا تلبي مطلبه الأول بالخلاص النهائي من النظام شكلاً وموضوعاً، لأنه نظام أسرف في الاستبداد والظلم والطغيان. وقد كانت المعارضة السياسية قد قبلت بما نص عليه القرار الدولي 2254 رغبة منها في إيقاف شلال الدماء، وفي الوصول إلى حل وسط عبر تشكيل هيئة حكم تضم الأطراف المتصارعة عدا من ارتكبوا جرائم حرب وإبادة، ومن استخدموا الأسلحة الكيماوية ضد الشعب وأدانتهم لجان الأمم المتحدة والدول المحققة الأخرى. وقد انطلقت عملية الحل السياسي من بيان جنيف ومن القرارات الدولية ومن أهمها 2118 و2254، وأذكر بالقرار الذي عبر فيه مجلس الأمن عن إدانته الشديدة للانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني من قبل السلطات السورية والميليشيات الموالية للحكومة، وقرر إحالة الوضع في الجمهورية العربية السورية الوارد وصفه في الفقرة 1 أعلاه منذ مارس 2011 إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. وقد عطلت روسيا بالفيتو كل القرارات الأممية التي حاولت إيجاد حل للقضية وتلبية مطالب الشعب السوري، وكان عدد كبير من قادة العالم قد صرحوا بضرورة إنهاء حكم النظام المدان بجرائم حرب ضد الشعب، ووصفه كثير من القادة بأنه فقد الشرعية، ولما قام باستخدام الكيماوي في قصف الشعب في الغوطة في 21 أغسطس 2013 تمكنت روسيا من إنقاذ النظام من العقاب الذي أوشك أن يكون إعلان حرب دولية عليه، واستمرت روسيا في الدفاع عن النظام، وتمكنت من تحويل أنظار بعض دول العالم عن حقيقة الصراع من أجل الحرية في سوريا، وجعله قضية نظام يواجه الإرهاب مع تغييب كامل لحضور شعب يتعرض للقتل والاعتقال والتعذيب. وتم تعطيل أي تقدم ممكن في مسار المفاوضات، ولكن تمثيلية «داعش» سرعان ما انكشفت، وصار واضحاً للعالم كله أنها صنعت أصلاً للتغطية على الثورة السورية وللدفاع عن النظام ومحاربة الجيش الحر بستار ديني متطرف. وربما تكون بعض الدول خدعت بقضية «داعش» التي قيل إن القضاء عليها يحتاج إلى عشر سنوات بمشاركة أكثر من ستين دولة، ولكن تسارع الأحداث كشف للجميع أن «داعش» منظمة إرهابية مفتعلة أدت مهمتها، ثم ذابت في رمال الصحراء وعلى أسوار الموصل، ونقلت بعض الدول عناصرها منها بالطائرات، ولكن قتل مدنيون بالآلاف وتشرد مئات الآلاف، ولم ير الناس جثثاً لـ«داعش» ولا أسرى لها! ومع اقتراب الانتهاء الدولي من قصة «داعش» التراجيدية ظهرت أصوات تهلل لانتصار النظام وهزيمة الشعب السوري، وصار مطلوباً من المعارضة أن تسارع إلى تقبيل البوط العسكري لنيل رضا النظام وعفوه. والطريف أن رجال النظام العتاة من العسكريين المجرمين نصحوه بألا يسامح أو يغفر، وبأن ينصب المشانق للمعارضين. وكان من الطرائف أيضاً أن يقوم ضابط بتقديم نصيحة أخوية للشعب المشرد بألا يصدق وعود النظام بالمسامحة لأن الجيش لن يسامح وسيتم قتل وعقاب كل العائدين إلى النظام حتى ولو قبّلوا البوط العسكري! وبدا النظام خائفاً قلقاً من احتمال عودة مئات الآلاف من السوريين المعارضين فقام مؤخراً بحملة اعتقالات لعدد كبير ممن عادوا من المغتربين الذين لم ينبس كثير منهم ببنت شفة خلال السنوات السبع ممن نسميهم «رماديين»، كما قام بحملة مصادرة منازل وأراض كي يحد من احتمال عودة المهجرين خشية أن يختل التجانس الذي أشاد به الأسد بعد رحيل 15 مليون مواطن جلهم من أهل السُّنة. وفي حديث إعلامي وجهت لي أسئلة صادمة عما يمكن أن تفعله المعارضة بعد هزيمتها الساحقة وانتصار النظام الضخم عليها (وهو في الحقيقة انتصار وهمي)، وما موقفها من المتغيرات الدولية التي بدأت تطالب ببقاء الأسد في المرحلة الانتقالية والسماح له بالترشح لانتخابات الرئاسة! لم أجد جواباً أفضل من القول إن من يبني استراتيجيته على متغيرات ستنهار استراتيجيته مع متغيرات لاحقة، وهذا ما يجعلنا نلتزم بالثوابت ولا نهتم للمتغيرات، وقد بدا اليوم أن متغيرات جديدة بدأت تظهر في المواقف الدولية، حيث لا يصح إلا الصحيح وهو رحيل النظام المستبد والتوجه إلى الديمقراطية، ومن الخطر أن يسجل التاريخ أن دول الديمقراطية الكبرى في العالم منعت الشعب السوري من الوصول إلى الديمقراطية، وأجبرته على أن يذعن للاستبداد على رغم كل ما قدم من تضحيات.