هذا السؤال المفجع يحتمل العديد من الإجابات، فقد يقول قائل إن روسيا هي التي تحكم سوريا، ويقول آخر، بل إيران هي التي تحكم الأرض بينما روسيا تحكم سماءها، ويقول ثالث لا تنسوا اليد الخفية لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة التي أنشأت قواعد عسكرية في سوريا وتوقفت عن دعم المعارضة. وقد يذكرنا أحدهم بوجود قوات عسكرية لعدة دول تشارك في الحكم من وراء ستار بذريعة كونها تشارك في مكافحة الإرهاب. ولن ننسى الحضور القوي للميليشيات الطائفية والعرقية التي جاءت من كل أصقاع الأرض، وبخاصة من لبنان والعراق، وتقاسمت النفوذ مع الآخرين بحسب قوتها العسكرية. وسيقول الموالون بل يحكم الثوار (وكانوا يسمونهم إرهابيين قبل الاتفاقيات الدولية معهم بخفض التصعيد، ولا أدري ماذا سيسمونهم الآن)! وفضلاً عن ذلك كله يقتطع بعض الأكراد (البي يي دي) مساحات شاسعة من شمال سوريا وشرقها ويحكمونها بدعم أميركي. بينما لا يزال تنظيم «داعش» الإرهابي يسيطر على مساحات واسعة من المنطقة الشرقية والبادية، وله حضور في الجنوب، والمفارقة أن هذا التنظيم موجود بحُرية مطلقة في دمشق وبعض ريفها المجاور، ولا أحد من النظام يهدد حضوره لأنه يهاجم ذات الأهداف التي يهاجمها النظام. وأما في إدلب وبعض ريفي حلب وحماه فما يزال الحكم لـ«هيئة تحرير الشام» (النصرة) المصنفة إرهابية، والحرب الدولية قائمة ضدها كما هي ضد «داعش»، وثمة مواقع عديدة تسيطر عليها فصائل من «الجيش الحر»، تمتد حتى ريف اللاذقية. ومباهاة النظام بالانتصار على شعبه هي تعبير عن امتنانه لما اقترف حلفاؤه من مجازر ضد الشعب بهدف الحفاظ الشكلي على وجوده، ولكن للأسف لم يعد للسيادة السورية حضور يذكر. لقد رفض النظام مشاركة الشعب في الحكم، ولكنه استدعى إيران وروسيا و«زعران» الأرض لحكم سوريا مقابل أن يبقى صورياً حاكماً مستبداً، وتجاهل أنه جلب الدب لكرمه، وأطلق مارد التطرف من عنق فوهات الزنازين، ولكنه لم يعد قادراً على إعادته، وخسر شعبه. وأنا أقول للتاريخ وللحقيقة التي عشتها قبل أن أغادر دمشق، إن أولى التظاهرات لم تكن تحمل شعارات ضد النظام، ولا طالبت برحيل الأسد، وما تزال الوثائق شاهدة، وإنما طالبت أولاها بإصلاح النظام، ولم يكن فيها أي نفَس طائفي أو إسلامي متشدد أو متطرف، وأغلب المتظاهرين الأوائل كانوا يطالبون بالحرية والكرامة وهتافهم «الشعب السوري واحد» تعبيراً عن وحدة وطنية. وكان من السهل أن يستجيب النظام لحد أدنى من مطالبهم، ولكنه خشي من تقديم أي تنازل يفضي إلى رفع متصاعد لتلك المطالب، وكان سيد الموقف الرسمي هو العناد والغرور، ووهم الظن بأن قتل عشرات من المتظاهرين كل يوم سيجعل الآخرين يفرون هاربين مذعورين، ولكن شعلة الثورة توهجت بعد العنف الشديد الذي استخدمه النظام الأمني العسكري، وكنت يومها أقول «إن الثورة السورية وجدت مبرراتها الكبرى بعد الثورة أكثر بكثير مما وجدته قبلها». وقد يقول قائل: ما فائدة هذا الكلام الآن وقد ضاع البلد وفقد جميع السوريين وطنهم موالين ومعارضين ورماديين، ولم يخرج أحد من السوريين رابحاً، وإن ظن النظام أنه قد انتصر فهو انتصار وهمي يمكن أن يحتفل به خامنئي وبوتين وحسن نصر الله الذي صنع له مجده شعبنا السوري، ولم يخطر قط على بال أحد من السوريين، إلا ما ندر، أنه عدو حاقد على هذا الشعب العربي السوري، وأن ولاءه خالص لإيران وحدها. وكذلك لم تنتصر الثورة عسكرياً، لأنها قامت ضد فروع الأمن المحلية المستبدة المتسلطة على رقاب الناس، ولكنها لم تقم ضد إيران وروسيا العظمى ونصف الكرة الأرضية، وعدة دول لم تفهم القضية وظنت أن إرهابيين هم الذين خرجوا متمردين على النظام ومن حق النظام أن يقتلهم ويشردهم. ولكن حضور السوريين المشردين في العالم كان أقوى من كل السياسات الداعمة للنظام علناً أو سراً، حين رأت الشعوب أن غالبية المشردين واللاجئين السوريين هم شعب حضاري متعلم ومثقف وكل جريمته أنه قد طالب بحريته، وحلم بالديموقراطية التي تنعم بها أغلب شعوب الأرض، وبات محرجاً لأوربا وأميركا مثلاً وهما تدعوان إلى الديمقراطية، أن تناصرا نظاماً مستبداً قتل شعبه حتى بالغازات السامة والأسلحة الكيماوية، ولم يبق في دول العالم نظير له إلا في بلد أو بلدين في العالم اليوم. والمتنورون من شعوب العالم يقولون: أما كان يكفي الأسد أن يحكم سوريا سبعة عشر عاماً؟ والمفارقة أننا نسمع عن توجهات دولية تسعى للإبقاء على الأسد رغماً عن أنف الشعب الذي دفع أضخم التضحيات كي يبني دولة مدنية ديمقراطية غير طائفية، وثمة من يقول «حسناً، أهزموه بالديموقراطية» أي بالانتخابات وهو يعرف أن الشعب السوري في المهاجر بات في شتات يصعب جمعه! وأن الباقين في سوريا يدركون أن من يقول «لا» سيلقى عذاباً يكون الموت أهون منه، حتى لو حضرت الأمم المتحدة كلها لرقابة الانتخابات. ومن المحال أن ترشح جبهة النظام سوى مرشح واحد، كما أنه من المحال أن تتفق المعارضة أيضاً على مرشح واحد ينافسه. إننا ندرك أن من يصرون على بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية إنما يريدون بقاء سلطة (إيران) تخصيصاً، فقد تكتفي موسكو بمصالحها وقد يتم التفاهم معها حولها، ولكن إيران ترنو إلى مشروع إمبراطوري توسعي يصعب أن تحققه إذا انتهت سلطتها على النظام.