يصادف شهر ديسمبر المقبل الذكرى 30 لتوقيع معاهدة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة حول تخفيض ترسانتيهما من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى. وقد مثلت تلك الخطوة البداية الأولى لعملية التخفيض الكبير للترسانتين النوويتين للبلدين، التي تواصلت بعد ذلك دون انقطاع، وأسفرت عن عقد معاهدتين مكملتين أخريين في عامي 1991 و2010 لتخفيض الأسلحة الاستراتيجية، وعدة اتفاقيات ملحقة لتخفيض الأسلحة النووية التكتيكية. وكان حجم هذه العملية التي انطلقت في عام 1987 قد اتضح من خلال حقيقة أولى برزت عند إعلان روسيا والولايات المتحدة في «مؤتمر مراجعة حظر انتشار الأسلحة» عام 2015، أن 80 في المئة من الأسلحة النووية التي تم تخزينها خلال سنوات الحرب الباردة قد تم سحبها من الخدمة وتدميرها. وكانت هناك حقيقة مهمة ثانية لا بد من الإشارة إليها. فعلى رغم التدهور الخطير في العلاقات بين البلدين، فقد حافظ الطرفان على الالتزام ببنود المعاهدات المتعلقة بالأسلحة الاستراتيجية. إلا أن «معاهدة القوى النووية متوسطة المدى» INF أصبحت الآن في دائرة الخطر، وأثبتت أنها الحلقة الأضعف في نظام تحديد وتخفيض المخزون من أسلحة الدمار الشامل. وهناك دعوات من الطرفين لإلغائها تماماً. فما هذا الذي يحدث الآن، وما هي المشكلة، وما الذي يجب علينا أن نفعله؟ لقد دأب كل من الطرفين على الإشارة إلى مشاكل تتعلق بعدم الالتزام بنصوص المعاهدة وروحها، وكل منهما يتهم الطرف الآخر بانتهاكها أو التحايل على أحكامها الرئيسية. ومن الصعب التحقق من هذه الاتهامات التي يتبادلها الطرفان بسبب نقص المعلومات الموثقة، إلا أن هناك شيئاً واضحاً تماماً وهو أن لهذه المشكلة شقّيها السياسي والتقني. وبات الأمر متروكاً الآن للقيادات السياسية لاتخاذ الإجراء المناسب لحلّها. وهذا هو بالضبط ما يدفعني لتوجيه ندائي إلى الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب. ولا شك أن العلاقات بين البلدين دخلت مرحلة الأزمة المستعصية. ولا بد من البحث عن مخرج، ولكن لا زالت هناك وسائل متوفرة أثبتت نجاحها من قبل في الوصول إلى حل، وهي الحوار المبني على الاحترام المتبادل. ولن يكون من السهل الخوض في كل القضايا الخلافية العالقة بين الطرفين. إلا أن حوارنا السابق قبل ثلاثة عقود لم يكن سهلاً أيضاً. وهو الذي تغلّبنا فيه على انتقادات ومعارضات بعض الحكام الديكتاتوريين الذين أرادوا إجهاضه. وبعد جولات من الأخذ والرد واستجلاء الأمور، كانت الإرادة السياسية لرئيسي الدولتين حاضرة بقوة، وهي التي أثبتت جدارتها. وهذا هو تماماً ما نحتاجه الآن، وهو ما ينتظره بلدانا ومواطنونا وشعوب العالم أجمع في كل مكان من رئيسي روسيا والولايات المتحدة. وأنا أتمنى على روسيا والولايات المتحدة التحضير لعقد اجتماع قمة جاد وجامع بين رئيسي الدولتين يتناول مختلف القضايا والمشاكل العالقة. وإن لمن المستغرب ألا يتقابل رئيسا أكبر دولتين نوويتين في العالم إلا «على هوامش» المؤتمرات والمنتديات الدولية. وآمل أن تبدأ عملية التحضير لعقد هذه القمة منذ الآن. وأعتقد أيضاً أن اجتماع القمة يجب أن يركّز على المشاكل المتعلقة بتخفيض المخزون من الأسلحة النووية، والعمل على تعزيز الاستقرار الاستراتيجي في الدولتين والعالم أجمع. وذلك لأن من شأن انهيار نظام مراقبة الأسلحة النووية، الذي يمكن أن يحدث لو تم إلغاء «معاهدة القوى النووية متوسطة المدى»، أن يؤدي إلى عواقب وتداعيات كارثية مباشرة وغير مباشرة. وكلما تم نشر الأسلحة النووية على مسافات أكثر قرباً من الحدود، ازداد خطرها. ولا يعود هناك ما يكفي من الوقت لتصحيح أي قرار أو خطأ كارثي يمكن أن يقع في مثل هذه الحالات. وهنا أتساءل: ما الذي سيؤول إليه مصير «معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية» NNPT لو عاد السباق نحو التسلح النووي من جديد؟ إنني أخشى أن يتوقف العمل بها تماماً. وأما إذا حرصت الدولتان على التقيّد ببنود «معاهدة القوى النووية متوسطة المدى»، فسترسلان إشارة قوية إلى كل العالم مفادها أن أكبر دولتين نوويتين في العالم أثبتتا حرصهما الشديد على تحمل مسؤولياتهما، والالتزام بنصوص المعاهدات الجادة المعقودة بينهما. وعندئذ، ستتنفس شعوب العالم الصعداء، وتعود العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة من جديد إلى المستوى الذي يراد لها. وتغمرني الثقة بأن إصدار بيان مشترك من رئيسي الدولتين بالالتزام بمعاهدة خفض ترسانتي «القوى النووية متوسطة المدى»، هو الهدف الذي نتوخاه في هذه المرحلة الحرجة. ويجب أن يتزامن ذلك أيضاً مع وضع الحلول العاجلة للمشاكل التقنية من أجل تحقيق الظروف المناسبة لمراقبة تطبيق بنود المعاهدة المذكورة بحذافيرها. وأنا متأكد من أن النوايا الصادقة للرئيسين الروسي والأميركي ستمكّن الجنرالات والدبلوماسيين من الاتفاق على احترام نصوص وأحكام المعاهدة. نحن نعيش الآن في عالم مضطرب. ولعل مما يزيد الأمور سوءاً أن تكون العلاقات بين القوتين النوويتين العظميين، روسيا والولايات المتحدة، قد أصبحت مصدراً للتوتر الذي يسود العالم. وقد آن أوان العودة إلى التعقل. وأنا على يقين بأنه لا يمكن حتى لكبار المعارضين لتطبيع العلاقات الأميركية - الروسية أن يعترضوا على التحضير للقاء قمة بين الرئيسين. ميخائيل جورباتشوف رئيس الاتحاد السوفييتي السابق من 1985 حتى 1991 ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»