عادت بي الذكريات، حين تابعت خبر مقتل الرئيس السابق عليّ عبد الله صالح، إلى يوم قضيته في المكَلاَّ.. تلك المدينة الجميلة السَّاحرة، رُفْقة مجموعة من الصحفيين بدعوة من وزارة الإعلام اليمنيَّة، بِمُناسبة العيد الوطني الخامس عشر، استقبلنا فيها الرئيس علي عبد الله صالح، مثل مئات الزائرين، مُبتسماً ومُسلّماً بحفاوة ومُصِراًّ على مصافحة الزائرين فرْداً فرْداً من أنهم كانوا بالآلاف، لذلك كان من الصعب عليّ متابعة خبر وفاته، وقد تكفّلت مواقع التواصل الاجتماعي بنشر صورته وكيفية التمثيل به دون العودة إلى تذكّر ذلك اليوم. لليمن في قلوب العرب حبٌّ تخلّده في الدنيا الأسانيد، بحكم الانتماء والأصول والحضارة. وأعتقد أن حبّي لليمن مثل عرب كُثْر نابع من جينات موروثة آتية من تلك الرحلة التي قام بها الحميريُّون إلى شمال أفريقيا عبر قرون خلت عندما كانت العرب العاربة والمستعربة لا تزالان في ظهر الغيب، بغض النَّظر عن المصادر التاريخيَّة التي تثبت تلك الرواية التاريخية أو تنْفيها. لذلك كان من أسعد أيام حياتي الإعلامية موافقة إدارة جريدة الاتحاد على قيامي بزيارة ميدانية إلى اليمن في بداية عام 2002، وقد تكلَّلت بملف نُشر على ثلاثين حلقة بعنوان «أيَّام على أرض بلقيس»، وفيه حاورت معظم القيادات بما فيها رئيس الحكومة الأسبق عبد القادر باجمال، ووزراء الدفاع والخارجية والإعلام.. إلخ، ورُفِض طلبي بإجراء حوار مع الرئيس علي عبد الله صالح آنذاك، بحجة مهنيَّة، وهي أنني لم أكن رئيس تحرير يومها، مع أنني في الحقيقة كُنت قبل ذلك الوقت بعشر سنوات رئيس تحرير لجريدتين في الجزائر، هما: «العهد»، و«الشروق العربي». تُرَى ما علاقة كل هذا بما يحدث اليوم في اليمن؟.. هناك علاقة مباشرة لأن الأحداث الماضية والراهنة والمستقبلية في اليمن تخص كل العرب، وما كان خلال السنوات الماضية من تجاهل وعدم اكتراث وصمت تجاه ما يحدث، لم يعد مقْبُولاً اليوم، والشّعوبيّة التي تدخل اليمن اليوم من الصّراع المذهبي مرفوضة جُمْلةً وتفصيلاً، كما أن دعوة البعض إلى إشعال نار الحروب والفتن بين القبائل اليمنية في زمن تتّجه في الدول الكبرى إلى تثبيت الهوية الجماعية أو الدخول في تحالفات كبرى لأجل دعم هذا الفريق أو ذلك ليست إلا كلمة حق يراد بها باطل، ما يعني أن الثأر لعلي عبد الله صالح يجب أن يكون ثأراً لليمن، بعيداً عن مصالح القبائل وعواطفها أو حسابات نفعيّة للأحزاب السياسية، وخاصَّة الأحزاب الدينية، ومنها مليشيات الحوثي، ومليشيات أخرى يتوقع ظهورها من حزب «الإصلاح»، سترفضها تداعيات المرحلة الحالية. لا جدوى من الحسرة والندم والبكاء على ضحايا حزبه «المؤتمر الوطني العام» وخاصة الراحل علي عبد صالح ومن معه ليسوا فقط لأنهم عبَّدوا الطريق إلى تغيير جذري في اليمن والمنطقة، وإنما أيضاً لأنهم وضعونا أمام أسئلة جوهرية، منها: ما مستقبل الدولة الوطنية في ظل استفحال الجماعات الإرهابية؟ وإلى متى سينتهي التحالف معها؟ وما نظرتها للأوطان والهوية؟ وما العمل عندما تتحوّل إلى مليشيات بديلة عن الجيوش النظامية؟ وإلى متى سيستمر القتل والدمار والخراب؟.. كل هذه الأسئلة وغيرها فرضتها تداعيات الأحداث في اليمن، وخاصَّة مقتل علي صالح ورفاقه، وعلى خلاف كل الأعين أرى الرئيس صالح مُبتسماً، كما رأيته يوما ما في المكلاَّ، مُبشِّراً ببزوغ فجر جديد، وهو كما قال الشَّاعر أبو عبادة البحتري: والشّمسُ مَاتِعَةٌ تَوَقَّدُ بالضّحَى طَوْراً ويُطفِئُها العَجاجُ الأكدرُ حتّى طَلَعتَ بضَوْءِ وَجهِكَ فانجلتْ ذاكَ الدّجَى وانجابَ ذاكَ العِثْيَرُ