لم يكن من الممكن عبر معظم التاريخ الإنساني أن تلبي أي سلطة احتياجات الشعب بدرجة كاملة، أو تكافئ تطلعاته بشكل تام، لأن الموارد المتاحة أقل من إشباع حاجات الناس التي لا حدود لها. وغاية أي حكم أن يحقق القدر الأكبر من توقعات المحكومين، أو أن يجعل الأمل قائماً باستمرار في اتجاه تحسين شروط الحياة. وقبل هذا وذاك إقناع الشعب بأن الإدارة التي تحكمه تبذل قصارى جهدها في سبيل هذا الهدف، أو صناعة مسارات قانونية وآمنة وطوعية وشفافة للحراك الاجتماعي، الذي يعطي الفرصة كاملة للمبدعين ومن يبذلون جهداً فائقاً ومن لديهم طموح مشروع كي يتقدموا إلى الأمام. في كل هذه المساحات والمسافات تقع ألوان من المجاز، فقد يجد الحكم نفسه في حاجة إلى عدم قول الحقيقة كاملة، مبتعداً عن الحديث المباشر والمحدد والدقيق، إما لأنه لا يريد إحباطاً لشعبه حين يطلعه على الحقائق بلا مواربة ولا التواء ولا تورية، فيدرك أن أوضاعه بائسة أو أنها، على أحسن حال، مما كان يصبو إليه، أو يتوهمه، أو لأنه لا يريد لمعارضيه أن يمسكوا عليه قولًا محدداً، أو وعداً معيناً، يحاسبونه عليه، إن انقضى الزمن الذي حدد هو أن يبلغ، بخطى واثقة، ما اعتقد الشعب أن السلطة ذاهبة إليه. وربما يريد الحاكم أن يظل الأمل فيه معقوداً، مراهناً على أن الوقت يعمل لصالحه، وأن بوسعه أن يجد الموارد، ويبذل الجهد، الذي يمكنه من أن يحقق ما وعد به، ولاسيما إن كان بقاؤه في الحكم سنوات مضموناً. وهنا قد يستخدم الحكم لغة مراوغة أو عاطفية أو مفتوحة على تأويلات عدة، هي في الحالات الثلاث واقعة في فلك المجاز، أو الإيهام، الذي بوسعه أن يبقي الباب بينه وبين المحكومين مفتوحاً، وكلاهما يتبادل فهم اللغة أو التراسل اللفظي على النحو الذي يروق له، فيتحدث الحكم عن رضا الشعب عما ذهب إليه في خطبه أو بياناته أو تصريحاته، ويتحدث الشعب أنه قد أجاد فهم الرسالة وأن بوسعه أن يعطي الحكم فرصة أو فسحة من الوقت كي يحقق ما وعد به. وإذا كان هذا الشعب مغلوباً على أمره، وليست أمامه وسائل متاحة للتغيير الطوعي، أو أنه عاجز عن التغيير العنيف، فإنه يكتفي بصناعة خطاب مجازي، أو يمارس «الصمت البليغ» مكتفياً بهذا على الأقل في أيام عجزه. ولا يعني هذا أن الحكم يميل إلى المجاز في كل الأحوال، فهو قد يستطيع في حالات معينة أن يكون واضحاً في أقواله ووعوده، إن كان يضمن أن يحققها. وهنا قد يحتج بما فعل في التعمية أو التغطية على ما لم يفعله، وبالتالي يحول الأقوال المحددة إلى مجاز جديد، حيث يوظفها في تعميق الإيهام والتخيل في نفوس المحكومين، فيبقون على تطلعاتهم قائمة. وهذه التطلعات في حد ذاتها قد تنطوي أحياناً على أحلام يقظة وتفكير بالتمني ومحاولة إقناع كل فرد لذاته بأن ما يجري يرضيه، ولاسيما إن تماهي الحكم مع منطق المحكوم، فردد ما يقوله، أو التمس له العذر، أو أمعن في منحه الفرصة تلو الأخرى، أو اعتقد أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن أي غضب مما هو موجود لن يؤدي بالضروري إلى ما هو أفضل. وتزداد مساحة المجاز في خطاب الحكم إن امتلك قدرة هائلة على المراوغة والمناورة، أو امتلك ذرابة اللسان، وحضور البديهة، وفهماً عميقاً لوجدان الناس وعواطفهم، وإدراكاً قوياً لمفاتيح الوصول إلى القلوب، وقدرة على التجدد في تقديم الحجج والذرائع، أو مرونة شديدة في الرهان على أن ذاكرة الناس لا تحمل كل شيء، وأن كثير الكلام ينسي بعضه بعضاً. وعلى رغم أن الحكم يدرك جيداً أن الأفضل لإدارة تطلعات الشعوب هو الصراحة والوضوح، فإن إدراكه للفجوة بين ما يريده الناس، وهو كثير في كل الأحوال ويتزايد باستمرار، وبين الموارد المتاحة أمامه ليلبي كل احتياجاتهم، وبحثهم الدائم عن مزيد من القوة المادية، يدفعه دوماً للجوء إلى لغة خطاب مشبعة بالمجاز، قد تجنح إلى الينبغيّات أو الإبقاء على الأحلام المؤجلة قائمة، معولًا على أن كثيراً من الناس قد يتفهمونه أو يعذرونه، أو على الأقل أن بعضهم، ممن ترتبط مصالحهم ومنافعهم ببقائه، سيدافعون عنه، ويعيدون ترديد وترويج مثل هذه اللغة، وهناك من بينهم مَن يكتفون بالبلاغة السياسية كسبب للرضا، وذلك حين يتحدثون عن قوة حجة الحكم، وفهمه لعواطف الشعب، وتعبيره عن أحلامه.