أفرط كثيرون في الحديث عن الأسباب التي جعلت الإيرانيين يخرجون غاضبين ضد السلطة، وعما إذا كان الاحتجاج أشبه بـ«انتفاضة جياع»، أو «انتفاضة خبز»، أم أن هناك أسباباً أعمق من هذا بكثير، تتعلق بطلب الحريات الفردية والعامة، إلى جانب الاعتراض على فكرة «تصدير الثورة» التي انتهت إلى استراتيجية توسعية حتى بعد تحول «الثورة» إلى «الدولة». وتطلب هذا تحليل هتافات المحتجين، وما هو مكتوب على اللافتات التي رفعوها في الشوارع، وما عبروا عنه في كلمات مكتوبة أو منطوقة وصور وأفلام قصيرة بثوها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هناك صورة جرفت أمامها كثيراً من التحليلات والتصورات والتكهنات لا سيما في ظل التعتيم الشديد التي تواجه به هذه المظاهرات من قبل سلطة قابضة على الإعلام والاتصال، إنها صورة لامرأة جميلة بيضاء ممشوقة القوام تقف حاسرة الرأس في شموخ رافعة ساعدها الأيمن ومكورة قبضة يدها في تحدٍّ، وزمت شفتيها في صرامة، بينما تجرد نصفها الأعلى من أي ملابس، إلا أنها سترته بعلم إيران تاركة ثديها الأيمن مكشوفاً تماماً، وعلى مقدمته لون أحمر. هذه الصورة تطاردها روايتان، الأولى تقول إنها امرأة من الثوار، أرادت أن تعبر بهيئتها تلك عن رغبة المرأة الإيرانية في التمرد على القيود الصارمة التي فرضها حكم الملالي على النساء، بل أرادت ما هو أوسع من هذا، وهو الحرية بوجه عام. والثانية هي أنها امرأة من صنع أجهزة الأمن الإيرانية يراد بها تخويف النساء من الانضمام إلى الانتفاضة لأن محركيها هم دعاة عري وإباحية. وهنا يحيل البعض إلى واقعة سابقة بطلتها فتاة مصرية تدعى «علياء المهدي» تجردت من ملابسها تماماً إبان ثورة يناير المصرية مطالبة بالحرية التامة للنساء، ما حدا بالقوى المضادة للثورة بما فيها أتباع التيار الديني لاستغلال هذه الصورة في إظهار الطليعة الثورية المدنية تريد أوضاعاً اجتماعية تتناقض مع الدين والأخلاق والتقاليد والأعراف، وهو بالطبع كذب صريح. لكن ما أقدمت عليه المرأة الإيرانية لا يمكن مقارنته بما فعلته الفتاة المصرية التي لم تكتف بخلع كل ملابسها والوقوف عارية في وجه كاميرا صورتها، على طريقة الأفلام الإباحية، بل راحت تدعو بلسانها إلى العري، وبالتالي خرج ما فعلته من مدار الرمز إلى التمرد على التقاليد، أو الدعوة إلى الحرية السياسية التي كان يطلبها الثوار وقتها، إلى فعل يرفضه حتى الثوار أنفسهم، الذين أدركوا وقتها كيف تم توظيف ما فعلته المهدي في تشويه صورة الثورة، خاصة أن النساء لعبن فيها دوراً بارزاً. فصورة المرأة الإيرانية تشبه إلى حد بعيد تلك اللوحة الموجودة في متحف اللوفر، ورسمها أوجين ديلاكروا، عن امرأة فرنسية عارية الصدر تماماً كانت من بين الثائرات خلال الموجة الثانية من الثورة الفرنسية 1830، وهي تمسك علم بلادها، ورمزت بما أقدمت عليه إلى رغبتها في الحرية السياسية، وليس بالقطع الحرية الجنسية، فهذه لم تندلع من أجلها الثورة، ولا هدم سجن الباستيل الرهيب، وقتل الناس في الشوارع، وحرقت بعض مقار الحكم، وعلقت هامات بعض الثوار على حبال المشانق. لكن صورة المرأة الإيرانية، التي لم تكتف بخلع الحجاب أو الوشاح مثلما فعلت نساء أخريات وسط المتظاهرين، ربما لم تخل من التعبير عن ثقافتها الاجتماعية، التي تشكل التصورات والطقوس الدينية جزءاً منها، فتعرية النصف الأعلى يقوم به الرجال من الشيعة في طقس الاحتفال بيوم «عاشوراء»، وهناك من بينهم من يضربون صدورهم ورؤوسهم حتى تنبجس منها الدماء غزيرة، وهو ما حرصت المرأة الإيرانية على فعله، وفق تمثيل رمزي، حين لطخت ثديها بلون أحمر. لكن النساء يضربن على صدروهن في هذا الطقس وهن متشحات بالسواد، متدثرة أجسادهن بالشادور، أما أن تكشف امرأة صدرها في مطالبة بحرية لا تتجاوز خلفيتها الثقافية، فإنها ربما تريد بهذا أن تقول: «أنا أساوي الرجل في هذا المجتمع الذكوري». وتحدي نساء إيران لسلطة رجال الدين توالت وقائعها المباشرة والرمزية منذ أن دان الحكم لهم قبل أربعة عقود تقريباً، وكان آخرها تحديهن لفتوى المرشد علي خامنئي، تمنع النساء من ركوب الدراجات، بدعوى أنها ممارسة «تعرّض المجتمع للفساد» وسلوك «يتعارض مع العفة لدى المرأة»، حيث أسست مجموعة من النسوة صفحة على فيسبوك تحت عنوان «حريتي المسلوبة»، لإدانة الفتوى، وعجّت الصفحة بصور النساء اللواتي قمن بركوب الدراجات دعماً للحملة. اليوم تلعب المرأة الإيرانية دوراً كبيراً في الانتفاضة الدائرة، فالفتيات في مقدمة المظاهرات، ويحرضن الفتية على الإقدام في وجه قوات الأمن، وربما في قلب ما يجري أرادت هذه المرأة الإيرانية أن تبلغ في تحديها لسلطة الملالي الحد الأقصى، دون أن تتخلى عن علم بلادها، أي وطنيتها، وخلفيتها الدينية الشيعية التي صارت جزءاً من ثقافة المجتمع.