في 5 أغسطس 2017، تبنى مجلس الأمن الدولي حزمة من العقوبات ضد كوريا الشمالية رداً على تجاربها النووية والصاروخية، عقوبات تُعد بين الأقوى من نوعها بحق بلد من البلدان منذ عقود طويلة. وفي تصريحات مرتجلة له بنادي الغولف الذي يملكه بولاية نيوجيرزي، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب: «إن أي تهديدات أخرى ضد الولايات المتحدة» ستقابَل بـ«بنار وغضب لم يسبق للعالم أن رأى نظيراً لهما». لكن بعد بضع ساعات على ذلك التصريح، هدّدت كوريا الشمالية بإطلاق أربعة صواريخ في المحيط الهادئ بالقرب من جزيرة غوام الأميركية. فردّ ترامب في تغريدة على تويتر قائلاً: «إن الحلول العسكرية باتت جاهزة الآن، إنها جاهزة للاستعمال، في حال تصرفت كوريا الشمالية على نحو متهور». وهكذا، دخلت احتمالات مواجهة نووية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية مجال الحسابات النفسية على نحو يذكّر بزمن الحرب الباردة، غير أن الرجلين اللذين كانا يتخذان القرارات الاستراتيجية الوجودية هنا لم يكونا جون كينيدي ونيكيتا خروتشوف، وإنما قطب عقارات ثرٍ، وديكتاتور شاب لم يسبق له أن التقى أبداً برئيس دولة أخرى. وبالتزامن مع هذا التصعيد الذي أصبح فيه شبح حرب نووية أقرب من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، صدر للدبلوماسي البريطاني السابق رودريك بريثويت كتاب «المواجهة النووية» الذي يحلل الردعَ النووي كرد فعل على تهديد متصوَّر، ويستعرض التطورات العلمية والاجتماعية والسياسية التي أفضت إلى سباق تسلح، وتركة ذاك الاختيار، وكيف تتم إدارتها. ويُعد بريثويت دبلوماسياً مخضرماً عمل سفيراً لبلاده بريطانيا في عدة بلدان، كان آخرها الاتحاد السوفييتي في سنواته الأخيرة. هذا المسار الدبلوماسي إلى جانب المسؤوليات العامة الأخرى التي تقلدها، لاسيما عمله كمستشار لرئيس الوزراء في السياسة الخارجية ثم كرئيس لـ«لجنة الاستخبارات المشتركة» في بلاده، أتاح له الاطلاع على السياسة البريطانية والأميركية المتعلقة بالأسلحة النووية عن كثب. وقد أمدّته تجربتُه الشخصية ودراسته المتأنية للموضوع، بالأدوات اللازمة لتحليل الخيارات الأخلاقية الصعبة التي تواجه العلماء الذين يطورون الأسلحة، وكذلك صناع السياسات الذين يضعون استراتيجيات استخدامها الممكن، في وقت يدرك فيه كلا الجانبين جيداً أنهما يستطيعان إرسال البشرية إلى حتفها. وإلى ذلك، يبدو المؤلف ملتزماً الحياد عند شرحه للهواجس والشكوك التي كانت تحرّك الجانبين الغربي والسوفييتي. فيقول إن صناع السياسات كانوا يتبنون التحليلات الأكثر تشاؤماً وتطرفاً لترسانة الطرف الآخر، فيخلطون بين القدرات والنوايا، ويشتبهون في أن الخصم يحاول التخلي عن قبوله المعلَن للتكافؤ في الردع النووي من خلال عمله سراً على تطوير قدرات توجيه الضربة الأولى. ويكتب بريثويت أنه بعد أشهر من ضربة هيروشيما رسمت الولايات المتحدة خطط طوارئ لاستخدام قنابل نووية ضد الاتحاد السوفييتي قصد «ردع أو وقف أي مغامرة سوفييتية في أوروبا». إلا أنه لم يظهر أي دليل على أن ستالين كانت لديه مثل هذه المخططات، يقول بريثويت. ولم يتغير شيء مع من خلفوه على زعامة الاتحاد السوفييتي إذ يقول المؤلف: «ليس ثمة أي دليل على أن الروس كانوا يأملون إدماج أوروبا الغربية بالوسائل العسكرية»، لكن المخططين الغربيين اعتبروا عمليات الانتشار السوفييتية قوة غزو محتملة منذ أن علّق السفير السوفييتي في واشنطن أناتولي دوبرينين في مذكراته قائلاً: «لقد كنا نعمل على حشد أسلحتنا النووية والتقليدية في أوروبا إلى حد غير معقول». المؤلف يكتب أيضاً عن «العلاقة الخاصة» التي تربط بريطانيا بالولايات المتحدة، فيشير إلى أن الولايات المتحدة حاولت في البداية إبعاد بريطانيا عن أي بحث مشترك حول الأسلحة النووية. غير أن الحكومات البريطانية المتعاقبة، سواء العمالية أو المحافظة، كنت تريد القنبلة لأنها لم تكن تثق في أن واشنطن ستدافع عن بريطانيا في كل الظروف. كما أن القنبلة كانت تمنحهم هيبة ومكانة بين الدول، أو هكذا كانوا يعتقدون. ولعل اللافت في كتاب بريثويت هو ما يبديه من تفهم لدوافع صناع السياسات، لذلك لم يقل الكثير عن «الحملة من أجل نزع السلاح النووي»، وإنْ أشار إلى أن الاستخبارات البريطانية «إم آي 5» كان تصفها طيلة 25 عاماً بأنها حركة «خاضعة لسيطرة اليساريين». وطبعاً، كان هذا مخالفاً للواقع وخطأ استخباراتياً جسيما اكتفى بريثويت بالإشارة إليه في الحاشية. ثم يختتم كتابه بالقول إن «السياسيين، وبغض النظر عن جنسياتهم، كانوا عالقين في شبكة منطق لا مفر منها، إذ لم يكن من الممكن عدم اختراع السلاح النووي. وإذا كان خصمهم يمتلكه أو بصدد امتلاكه، فإنهم مضطرون أيضاً لامتلاكه إن كان يراد لهم ألا يفشلوا في واجبهم الوطني». لكن هذا نصف الحقيقة فقط، أما نصفها الآخر فهو أنه في مكان سابق من الفصل نفسه يشير بريويت إلى أن كندا وجنوب أفريقيا والأرجنتين والبرازيل كلها بلدان كانت تستطيع اكتساب المهارات الضرورية لتطوير أسلحة نوية خاصة بها، لكنها لم تفعل ذلك. وربما كان بإمكانه الإشارة أيضاً، في هذا الصدد، إلى أن بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا، التي كانت تمتلك هذه الأسلحة على أراضيها، اختارت التخلي عنها. وربما كان سيكون من المفيد أيضاً بحث الأسباب التي جعلت كل هذه الدول لا تسعى إلى أن تصبح قوى نووية، وكذا الطريقة التي ردت بها شعوبها على ذلك. فالشواهد تشير إلى أن تطوير قنبلة، في بعض السياقات، أبعد ما يكون عن «الواجب الوطني» للسياسيين. وبالمقابل، فإن التخلي عن الخيار النووي يمكن أن يكون منطقياً أكثر من الناحية الوطنية وأن يجلب دعماً سياسياً واسعاً. محمد وقيف الكتاب: معركة نهاية العالم والشك المرضي.. المواجهة النووية 1945-2016 المؤلف: روديك بريثويت الناشر: بروفايل بوكس تاريخ النشر: 2017