لمسنا في السنوات الأخيرة تناقضاً في إدراك الأطراف السياسية المتصارعة لحقيقة ما جرى في بعض البلدان العربية، هل هو «ثورة» أم «مؤامرة»، وهل هو «حراك شعبي» أم «انقلاب عسكري»، وعمل كل طرف على الاستعانة بكل ما استطاع أن يؤتيه من مجاز في الدفاع عما يعتنقه، والجميع كان عليه أن يغفل بعض الحقيقة الموضوعية، ويعلي من قيمة الحقيقة الذاتية، كي يخرج في النهاية منتصراً لرأيه. وقد نجم هذا، ليس عن سوء نية في كل الأحوال، إنما نتيجة وجود إدراك متبادل ومتعدد للحقيقة، إذ يراها كل طرف من وجهة تختلف عما يطرحه الآخرون، وبما يعبر عن ثقافته ومصالحه ومواقفه وحالته النفسية والمعنوية، ويخلق هذا نوعاً من «الحقيقة الذاتية»، إذ يزعم الكل أنه يعبر عنها، أو يجسدها، أو يرومها ويقصدها، وبعض هؤلاء يظل متشبثاً بخندقه لا يبرحه، حتى لو أثبت له غيره خطأ ما هو عليه. وهناك من يتزحزح قليلاً بمرور الوقت، وإعمال العقل في دراسة ما هو عليه وتمحيصه. وهناك من يبدل تبديلاً، مذعناً لما خلص إليه بعد طول تفكير وتدبر. ويصل الأمر بقلة أن تجري «قطيعة معرفية»، وربما «انفصالاً شعورياً» عما كانوا يعتنقونه في الماضي، إما لاقتناع أملاه الضمير، أو لانتهازية متأصلة في نفوس بعض البشر. وفي وقت الانحياز إلى ما يعبر عن الذات، والركون إليه، وكذلك في رحلة مفارقته والابتعاد عنه بدرجات متفاوتة، يصبح القول بالحقيقة، أو ادعاؤها، نوعاً من المجاز، يتجلى في وسائل ووسائط التعبير عما ينافح به الفرد عما يعتقده فيه، أو يعتنقه. ويتسع هذا المجاز إن كان الفرد يدرك مستوى التلفيق أو التدليس أو المراوغة التي يقوم بها، وهو يتكلم عما يريده، أو يسطره على الورق منفرداً، أو يحاور به الآخرين، محاولاً أن ينتصر لوجهة نظره، ويفند وجهات النظر الأخرى، التي يقع منها موقع المحاججة أو المقارعة. وإذا كان الحوار السياسي أو الثقافي أو الإنساني أو الاجتماعي الدائر ينطوي على الحقيقة الخاصة بكل شخص، فإن هذا لا ينفي ولا يهدم وجود «الحقيقة الموضوعية»، التي تتجرد عن الهوى والمصالح والمنافع والانحياز المصمت للأيديولوجيات والأطر المعرفية والذهنية، وتظل هي نقطة الارتكاز، التي يجب الانطلاق منها، أو المرجعية التي يفيد القياس عليها، والإحالة إليها. لكن الحقيقة الذاتية لكل فرد أو جماعة هي الأهم، لأنها في النهاية هي التي تحكم ما ينجم عنها من تصور أو آراء أو تصورات. وهنا يصير المجاز هو المسافة الفاصلة بين «الحقيقة الذاتية» و«الحقيقة الموضوعية»، التي تتسع وتضيق حسب الزمان والمكان، أو وفق الظروف والسياقات التي تحيط بالأقوال والأفعال. ويكبر هذا المجاز أو يصغر، حسب مستوى الابتعاد بين الحقيقتين. وإذا كانت الحقيقة الأولى يصنعها الشخص منفرداً، بعد أن يهضم ما يقرؤه ويسمعه ويفكر فيه في عالم المعنويات والروحانيات والنفسيات، ويراه ويلمسه ويتذوقه ويشمه في عالم الماديات، فإن الثانية قد تكون خلاصة ما تنتهي إليه الجماعة أو يعبر عنه عقلها الجمعي، أو ما اصطلح عليه الناس واتفقوا بعد طول اختبار وتجريب. فإذا كنا مثلاً بصدد التعبير عن الحرية، فإننا يمكن أن نتفق على المؤشرات والمظاهر والتجليات الأساسية والأصيلة لها، لكن هذا لا يعني أبداً المصادرة على حق كل فرد في أن يراها من زاويته، فيصبح ما يراه شخص من صميم الحرية، هو في نظر آخر نوع من التفلت والفوضى. ويصبح على من يفارق المؤشرات الأساسية تلك إلى الأمام نحو التحرر المطلق، أو إلى الخلف في اتجاه الإكراه التام، أن ينافح عن وجهة نظره بقدر ما تسعفه به قريحته من مجاز يبديه وهو يدلل أو يقيم البرهان على ما يقول، سواء كان هذا المجاز ابن الخيال البحت، أو مستنبتاً من التجارب الواقعية، التي جرت له، أو وقعت لغيره. فالمعبر عن «الحقيقة الذاتية» مجبول طيلة الوقت على استعارة ما يبرر به موقفه، سواء كان كذباً، أو شيئاً من الواقع يضيف إليه من عنده، أو حتى صدقاً يتم التعبير عنه أحياناً بالحكايات التي لا يمكن أن تخلو من مواقف وأفكار من صنع الذات، ولو لم تكن كذلك فإن ذاتية التعبير عنها لا تخلو من اختلاق، لأن الفرد منا يحكم في النهاية على ما يجري أمامه، أو حتى ما وقع له، وفق إدراكه له، وإحساسه به. فمن يقول إن طلب الحرية، والإصرار عليه، جلب متاعب للإنسانية، لا سيما إن كانت «الحرية الحمراء» فإن هناك من يرى العكس تماماً، ويؤمن بأن النضال من أجل الحرية كان سبباً أساسياً في تحسين شروط الحياة أو إسعاد البشر أو جعل الحياة لها معنى. ويجتهد أصحاب الرأيين المتناقضين هذين في الدفاع عن وجهتي نظريهما، وكل منهما قد يعلم أنه لا ينطق في كل الأحوال بالحقيقة الموضوعية التي يصل فيها المجاز إلى درجة الصفر أو ينعدم، ويكون الكلام ليس موافقاً لمقتضى الحال، إنما موافق لما ينبغي أن يكون في أجلى وأصفى درجاته، مبتعداً عن المراوغة والمخاتلة والتحايل.