أثارت الملاحظات «المهينة» حول أفريقيا وهاييتي، التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب خلال اجتماع عقد في البيت الأبيض يوم 11 يناير الجاري حول سياسة الهجرة، ضمّ أعضاء من الكونجرس تابعين للحزبين الرئيسين «الجمهوري والديمقراطي»، أثارت موجة قوية من الاضطراب في الأوساط السياسية المحلية والدولية يمكن أن تتواصل لشهور مقبلة. والآن، وبعد أسبوع من الاجتماع، لا يزال المشاركون فيه منقسمين بشكل كبير حول طريقة التدقيق في معاني وتفسيرات الكلمات التي نطق بها الرئيس. وتصاعدت حدة الأزمة في الوقت الذي تطلب فيه الأمر اتخاذ قرارات حاسمة حول المستقبل الذي ينتظر آلاف الأشخاص الذين حصلوا على إقامة مؤقتة في الولايات المتحدة، إلا أنهم يواجهون الآن احتمال الترحيل ما لم يصادق الكونجرس على القوانين الجديدة التي تسمح لهم بالبقاء. ولعل القضية الأكثر خطورة وإثارةً للمشاعر هي التي تتعلق بمصير ما لا يقل عن 800 ألف من الشبّان صغار السن الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة باعتبارهم أبناء المهاجرين غير الشرعيين وقضوا معظم فترات حياتهم هناك وهم يمارسون أعمالهم أو يذهبون إلى المدارس أو ينضمون إلى صفوف القوات المسلحة باعتبارهم من الشباب الأميركيين. وفي عام 2012، أصدرت إدارة أوباما أمراً تنفيذياً تحت عنوان «العمل المؤجل لوصول الأطفال» (DACA) الذي يسمح لبعض الأطفال الذين دخلوا الولايات المتحدة بطريقة غير قانونية بالحصول على إقامة قابلة للتجديد كل سنتين تجيز لهم العمل في الولايات المتحدة بشرط ألا تكون لهم سوابق جنائية. وهناك أيضاً «قانون الحالمين» Dreamers Act أو المتعلقين بالحلم الأميركي والذي كان يُنظر إليه باعتباره قراراً إنسانياً بالدرجة الأولى لأنه لا يأخذ في الاعتبار الأصول القومية أو العرقية للوافدين إلى الولايات المتحدة. إلا أن الجمهوريين عارضوه بشدة بحجة أنه يشكل مثالاً واضحاً على تجاوز الرئيس السابق لسلطته التنفيذية. وفي شهر سبتمبر 2017، قلبت إدارة ترامب هذه السياسة رأساً على عقب برغم عدم تنفيذ قرارات الطرد بحق المستفيدين من قرار «العمل المؤجل لوصول الأطفال». وعبّر ترامب عن تعاطفه مع «الحالمين»، لكنه أعرب أيضاً عن أمله في أن يوافق الديمقراطيون على تخصيص التكاليف المالية لبناء الجدار العازل الممتد على طول الحدود المشتركة مع المكسيك، والذي سبق أن وعد به ناخبيه كجزء من اتفاقية شاملة حول ملف الهجرة. وهو يريد أيضاً تغيير القانون بحيث يتطابق مع شروط الهجرة الشرعية. ووعد بالعمل على تسهيل مهمة الحصول على تراخيص الدخول إلى الولايات المتحدة لأصحاب الكفاءات العالية، وزيادة صعوبات الدخول بالنسبة للعائلات التي تحاول ذلك بحجة لمّ شمل الأقارب برغم أن معظم أقاربهم لا يحملون «البطاقة الخضراء» ولا هم مواطنون أميركيون. وربما كان هذا المفهوم الذي يقتنع به ترامب هو الذي يقف وراء الخطاب المتطرف الذي نطق به يوم 11 يناير الجاري. فقد قالها بكل وضوح ومن دون مواربة بأنه يفضل استقبال مهاجرين آتين من النرويج و«البيض» الآتين من بلدان أوروبا أو آسيا، على استقبال الشعوب التي تأتي من أفريقيا أو هاييتي، وهي إشارة مبطنة لعدم رغبته في قبول «الأشخاص ذوي البشرة السوداء». وكان لأطروحات ترامب تلك أن تسببت بحدوث انقسام عميق مع الديمقراطيين الذين عبروا عن رغبتهم القوية في الاحتكام إلى قوانين حاسمة تمنع الطرد الآلي للمستفيدين من قرار «العمل المؤجل لوصول الأطفال»، وبحيث تتضمن تلك القوانين الإشارة إلى ضرورة منحهم حق المواطنة. ولو أخذنا بالحسبان مستوى الغضب العام على ترامب بسبب تعليقاته العنصرية تلك، فسوف نستنتج من ذلك مدى صعوبة التوصل إلى حلّ توافقي مشترك ومناسب مع الديمقراطيين حول هذه القضية التي يتمنى معظم سكان الولايات المتحدة الوصول بها إلى حل مبني على أسس إنسانية. وتكمن المشكلة في أن سجلّ ترامب في مجال الطرح العنصري الواضح وغير المسؤول بلغ الآن مرحلة التمادي للدرجة التي خلقت انقسامات حادة حتى بين أعضاء الحزب الجمهوري، وأثارت الاستياء في العديد من الدول الحليفة للولايات المتحدة، وخاصة النرويج التي لا يبدو أنها بحاجة لأن ترسل مواطنيها كمهاجرين إلى الولايات المتحدة، لاسيما في ظل الإدارة الحالية. ويمكننا أن نفترض أن كل الأميركيين، ومن دون استثناء، يعتقدون بضرورة إخضاع نظام الهجرة لعملية تحديث وتعديل. ولو كنا نعيش غير الظروف التي نعيشها الآن، لكان من الممكن التوصل إلى حلول توافقية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في هذا الشأن. وما لم تهدأ فورة الغضب التي أثارها خطاب ترامب الأسبوع الماضي حول مصير العديد من الشبّان صغار السن الذين لا يملكون إلا خيار البقاء والعيش في أميركا، فسوف يبقى هؤلاء رهينة تقلبات البيت الأبيض الذي أثبت عجزه عن العمل بعد مرور عام من تسلم الجمهوريين للسلطة.