لم يشأ آخر شهر في العام 2017 أن ينقضي دون أن يضربني بصاعقة رحيل الأخ الكبير والصديق الغالي عبد المحسن القطان (أبو هاني) الذي يصادف هذه الأيام أربعينه. ولعل من أبرز صفات هذه السنديانة الباسقة: الأصالة (في الفكر والعمل) والعطاء (الدائب والصامت غالباً) لصالح قضايا أمته، وفي الطليعة منها فلسطين. ولقد كان -رحمه الله– صلباً في مواقفه وتعاملاته مع قدر من الليونة التي تمنع الأعداء والخصوم من كسره فيما لو حاولوا، جريئاً في أفكاره ومعاييره دون أن يسمح للأداء المغامر أن يكسر مفاعيل تلك الجرأة. تلك هي شهادتي التي تستند إلى معرفة وثيقة بالراحل وعلى مدى ما يقرب من نصف قرن. ولطالما كان له من اسمه نصيب: فهو «عبد المحسن» الذي يحلو له –ولنا– مخاطبته باسم «محسن». بدأ عبد المحسن تعليمه في «المدرسة الأيوبية» في مدينة يافا. وحين بلغ الخامسة عشرة من عمره، دخل «الكلية العربية» في القدس، والتي كان يديرها أحد كبار المربين الفلسطينيين آنذاك، هو خليل السكاكيني. ويختار «الحظ المشترك» أن يتعرف «محسن» على «ليلى خليل السكاكيني» في بيروت والكويت لاحقاً ويتزوجا.. فتصبح ليلى شريكة محسن ليس في الزواج فحسب وإنما في رحلة عطائهما الطويلة. في يافا الساحرة، ازدهر الشاب في البيئة القومية التي تميزت بها، مُبدياً اهتماماً كبيراً بالشعر والتاريخ العربي والإسلامي. وفي عام 1947، التحق بالجامعة الأميركية في بيروت. وفي زيارته الأخيرة عام 1948 إلى يافا لم يدرك محسن وهو يودع عائلته أن زيارته تلك لن تتكرر قبل مضي واحد وخمسين عاماً يقضيها في المنفى والشتات بسبب ما اصطلح على تسميته «نكبة 1948»! وفي الجامعة، درس محسن «إدارة الأعمال» وتخرج عام 1951، حيث انتقل إلى الأردن، ليعمل مدرساً في «الكلية الإسلامية» في عمان. وفي عام 1953، توجه إلى الكويت وعمل مدرساً، ثم عمل فيما بعد مديراً عاماً لوزارة المياه والكهرباء في الكويت. وفي عام 1963، أسس «شركة الهاني للإنشاءات والتجارة» تيمنا باسم ولده البكر (هاني). وبفضل الطلب الكبير في سوق الكويت النفطية، ازدهر العمل بسرعة هائلة، حتى أمست الشركة من أكبر شركات المقاولة في الكويت. وعلى الرغم من حياته المهنية، ظل عبد المحسن نشطاً في السياسة الفلسطينية والعربية، فمثَّل شعبه في زيارات دولية عدة، منها مرافقته أحمد الشقيري في زيارته إلى الصين 1964، داعماً منظمة التحرير الفلسطينية الناشئة في أول انطلاقها. وفي العام ذاته، مُنح عبد المحسن الجنسية الكويتية، حيث توجه وعائلته لاحقاً إلى بيروت ومكثت العائلة حتى اندلاع الحرب الأهلية هناك. وخلال هذه الفترة، قرر «أبو هاني» الاستمرار في العمل في كلا البلدين، وكثف مساهمته في السياسة الفلسطينية. ولدى انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة عام 1969، تم انتخابه لمنصب الرئيس، وهو منصب تخلى عنه بعد أيام قليلة إثر فشل أجنحة المنظمة في الاتفاق على إدارة موحدة لمصادرها العسكرية والمالية، وكانت تلك نهاية اشتراكه المباشر في السياسة، مع أنه ظل عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني حتى استقالته منه عام 1990 إلى جانب صديقيه إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد، احتجاجاً على موقف منظمة التحرير من أزمة الخليج. ومع بداية التسعينيات، حوّل عبد المحسن جل اهتمامه إلى العمل الخيري. وكان مشتركاً في العمل الخيري والاجتماعي على مستويات عدة، كأحد مؤسسي «مؤسسة التعاون» في جنيف، فوفَّر لها دعما متميزاً بعد أن تولّى مسؤولية «محافظ فلسطين» لدى «الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية»، ومقره في الكويت. وقد عايشت بنفسي فكرة «مؤسسة التعاون». فذات مساء من أيام «الزمن الجميل» في الكويت عام 1981، هاتفني «أبو هاني» ودعاني (والمرحوم توفيق أبوبكر) إلى منزله لمناقشة الفكرة التي تحولت لاحقاً إلى حقيقة. ولطالما دعم «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» و«مركز دراسات الوحدة العربية» وجامعتي بيرزيت والنجاح ومؤسسة «أحمد بهاء الدين» في مصر. لكنه في أعقاب «تفاهمات أوسلو»، قام بمأسسة عمله الخيري (ومعه شريكة حياته ليلى) من خلال تأسيس مؤسسة «عبد المحسن القطان» التي تعتبر اليوم إحدى أهم المؤسسات التعليمية والثقافية في الوطن العربي، بميزانية سنوية تزيد على 2,2 مليون دولار مجمل مصاريفها ممول ذاتياً من قبل «صندوق عائلة القطان الخيري»، الذي يتابع البرامج الهادفة من رام الله، وغزة، ولندن. و«المؤسسة» تمثل سابقة في الاستقلالية والشفافية والابتكار في المجالات التي انخرطت فيها. ولا زلت أتذكر موقف «محسن» من الاستثمار الاقتصادي في فلسطين، إذ لطالما ردد: «نحن رجال الأعمال الذين عشنا وعملنا في المنفى علينا أن نبتعد عن الاستثمار الاقتصادي في فلسطين لأنه ليس من حقنا جني الربح من وطننا المحتل، بل علينا بذل العطاء للوطن دون الأخذ منه عبر دعم أهلنا بالعمل الخيري الهادف، فننفق في فلسطين ولا نأخذ منها». في رحلة عطائه (ومعه شريكته ليلى) حرص محسن، الشاب الفقير بسبب النكبة، والذي أصبح رب العائلة بعد رحيل والده مبكرا، أن يبدأ كرمه (وحاله حال الكثير من الفلسطينيين العصاميين) مع عائلته فقام بتعليم شقيقاته وأشقائه حتى وقفوا جميعا بثبات على أقدامهم في رحلة الحياة، ثم عم خيره أبناء وطنه وأمته. ولأنه كان «النموذج» في العائلة، التحق معه في رحلة الخير والعطاء شقيقه وليد الذي اتسم أيضا –وما يزال – بمناقب رجل الخير المعطاء.. والصامت. ولأنه كان النموذج في الحياة العامة، تجد اليوم تلامذة محسن الذين ما برحوا يسيرون على دربه في العطاء المؤسسي الخيري الصامت. وفي «حضرة غياب» محسن، نحن على يقين بأن ثمار الإحسان باقية بفضل عطاء الأشجار التي زرعها على مدى سنوات حياته. ألا بوركت يا محسن يوم ولدت، ويوم رحلت، ويوم تبعث حياً.