مع كتابة هذه الأسطر في نهاية فبراير 2018 تُدك الغوطة الشرقية دكاً، وكأنها باتت هباءً منبثاً وكأن ساكنيها في يوم الحشر الأعظم. ومن مدينتِي «القامشلي» التي ولدت فيها، يتمدد الأكراد بدعم أميركي، تتصدرهم قيادات لا توصف بالنزاهة إلا نادراً، وحلمهم التهام الشمال السوري حتى مياه المتوسط. أما الأتراك العثمانيون فيحلمون بأيام سليمان القانوني، ويمدون أيديهم بغصن الزيتون، فيحاصرون عفرين، ويقطعون الطريق على الكرد غرب الفرات، وكأننا في أيام صراع بيزنطة وفارس! الروس يقرقعون في السماء بطيران حربي لا يتحاشى هدفاً من أي نوع، يهلك من السوريين مئات الآلاف، ويمزَّقون شر ممزق، على غرار ما جاء في سورة «سبأ»: «ومزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث». والغريب أن من هربوا منهم إلى السويد وألمانيا، حملوا مشاكلهم معهم، فهم يتقاتلون ويتناحرون هناك أيضاً. ولعل السوريين أكثر من غيرهم يشعرون بحقيقة الغابة العالمية الحالية، الواقعة بين أسد أميركي ودب روسي وتنين صيني ونمر ياباني ونسر أوروبي وثعلب صهيوني وجمل عربي وغوريلا أفريقي. أما وطنهم أو بقيته فهو يضم مسكيناً ويتيماً وأسيراً، بين مواطن أعمى ومثقف مدجن وصحافة مرتزقة وفقيه غائب عن العصر ومسؤول أطرش.. وكأنهم جميعاً «صم بكم عمي فهم لا يعقلون». «الربيع العربي» تحول إلى شتاء وأوحال. الأصنام القديمة خلعت ملابسها في كرنفال ممل، وعادت الجمهوريات بأقسى أنواع الأنظمة الشمولية. الفرق بين كوريا وسوريا حرف واحد فقط. النظام في دمشق اعتاد القتل، فالأسد الأب دمر مدينة بكاملها، والأسد الابن دمر بلداً بكامله أيضاً. الأسد الأب قتل في حماة أربعين ألفاً، وفي سجون (مثل سجن تدمر) أنهى حياة عشرات الآلاف بقتل منهجي منظم وبطرق يتوقف العقل ويتجمد عن فهم الدوافع لاستخدامها. الابن هجّر عشرة ملايين وقتل مليوناً من الآداميين. كل ذلك ليبقى في الحكم وبأي شكل وبأي ثمن ولأطول فترة! إنه زمن التيه والخوف، زمن الضياع في ذاكرة التاريخ، زمن اللامعنى واللامفهوم. العالم يتفرج على الأطفال وهم يقتلون في بيوتهم داخل الأحياء السكنية، وعلى الناس وهم يختنقون بالغازات السامة في شوارع المدن وفي أسواقها، وعلى البيوت، وهي تتهدم على رؤوس الساكنة من النساء والأطفال والمرضى والجوعى.. وكل ذلك موثق وبالصوت والصورة، فيما الغرب الديمقراطي يتفرج! الشعب السوري، والعربي عموماً، يدفع ثمن فاتورة سباته التاريخي الطويل، فليس مثل المعاناة منغصاً لقوم آثروا النوم والراحة! لم يكن اليهود ليؤسسوا دولتهم وتكون لها أسنان نووية لولا قصة «الهولوكوست». الشعب السوري اليوم يحترق بالهولوكوست العربي، ويتم تخطّفه كما جاء في الحديث النبوي الشريف، حين أنذر نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم مَن حوله بأن وقتاً ليس بالبعيد ستتكالب فيه علينا الأقوام والأمم. وبالفعل هاهم أقوام شتى، من القوزاق الروس والفرس والعجم وأحفاد ريتشارد قلب الأسد.. يأكلون القصعة وهم يتسامرون ويتغامزون وقد علت قهقهات انتصارهم. نعم، «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: يارسول الله أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: يارسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت». د. خالص جلبي*