تعد الثقافة أحد أهم أركان الحضارة المميزة لأمة من الأمم، وهي في مضمونها تنطوي على الخصائص الحضارية والفكرية واللغوية والمعرفية لتلك الأمة، وقد تكونت في داخلها بفعل التراكمات الحضارية التي حدثت عبر مراحل طويلة من الزمن. لذلك فحين نتحدّث عن الثقافة بمعناها الحضاري الواسع، وعلى الأخص الثقافة العربية، فلابد من ذكر التحديات التي تمنع انتشارها على رقعة جغرافية أكبر وأكثر اتساعاً، كما تتعين الإشارة إلى الأخطار التي تواجه هذه الثقافة وتراثها الفكري واللغوي الممتد وتجعلها تبدو جامدة وغير قادرة على مواكبة العصر ومتغيراته. ولعل أهم الأخطار التي تواجهها الثقافة العربية في مرحلتها الراهنة، حالةَ التشويه التي تتعرض لها بين أبنائها، خاصة في الصحافة والثقافة والتعليم الجامعي.. بهدف التقليل من أهميتها وأهمية رموزها، وسعياً لجعلها تذوب وتنمحي في ثقافة الآخر. ومن سنن الله تعالى، كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي، أن المجتمعات المتحضرة تؤثر في المجتمعات الأقل تحضراً، بعاداتها وأذواقها، وأيضاً بثقافتها ولغتها ومعارفها وعلومها، خاصة بعد أن أصبحت مثل هذه المؤثرات الثقافية الكبيرة والتغيرات الاجتماعية شديدة الوقع سلاحاً قوياً في حلبة صراع الأفكار. وتعمل الثقافة المهيمنة على بث الفلسفات المادية المضادة لقيم الثقافة العربية، سعياً لبث روح السلبية فيها ولإدخال مناهج فكرية تحطم ما تبقى من معاني وقيم وأخلاقيات وأسس تربّت عليها المجتمعات، حتى تضمن هزيمة الشخصية العربية من الداخل وتصبح لغة الثقافة المهيمنة هي السائدة، فتصاب بنفس الأزمة التي أصابت الحضارة الغربية عندما فقدت روحها، كما يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، وأصبح الإنسان فيها يركض بلا هدف ودون معنى. وهنا لا نطالب بانعزال ثقافتنا العربية عن الاستفادة من الثقافة الأخرى، وعن علومها ولغتها وخبراتها، بل ندعو للاحتفاظ بالشخصية العربية وأصالتها وقيمها الأساسية، وأن لا تذوب في ثقافة الآخر ولغته، فتنشأ مع مرور الوقت والزمن أجيال عربية تنسى ثقافتها وحضارتها ولغتها وعقيدتها، أجيال تسهم في زحزحة الثقافة المحلية والوطنية ومحاصرتها ونفيها تدريجياً مثلما حدث في بلدان عديدة عندما دخلت في فخ الاستدراج إلى «التبعية الثقافية»، فنسيت أجيالُها حضارتَها ولغتها وثقافتها. وما من شك في أن خصوم الأمة العربية سيلجؤون إلى سلاح الأفكار الناعمة، لأن أدواتهم الخشنة أصبحت عاجزة عن حل مشكلاتهم المتعلقة بهذه المنطقة، وسوف يعملون على تجنيد أكبر كم من «العقول المثقفة»، وسوف يواصلون في الوقت نفسه عملهم ضد الفكرة المجردة، وبوسائل ملائمة فيها مرونة أكثر، وسوف يستعينون من أجل ذلك بخريطة نفسية للعالم العربي، خريطة تجرى عليها التعديلات الضرورية من مرحلة إلى أخرى على أيدي متخصصين مكلفين برصد الأفكار، يرسمون الخطط ويعطون التوجيهات العملية على ضوء معرفة دقيقة ومتابعة لصيقة. لذلك يحتاج العرب إلى امتلاك رؤية خاصة ونظرية تنموية مستقلة، وإلى حيازة الإمكانات والمؤهلات المعرفية والنظريات العلمية الملائمة التي تساعدهم على النهوض والتطور، في إطار قيمهم الثقافية والاجتماعية والحضارية والدينية ولغتهم الوطنية وتراثهم القومي.. وأن لا يشكل ذلك نوعاً من التشدد أو الجمود الفكري في هذه الأمة، والذي غالباً ما يكون مآله الذوبان في ثقافة الآخر «الغالب».