مع «العملية الشاملة» التي تقوم بها القوات المسلحة المصرية في كافة ربوع الدولة، وتتوالى بياناتها التي تتحدث عن قتل إرهابيين والقبض على آخرين وتدمير أوكار وضبط مخازن أسلحة، يثار تساؤل في أذهان كثير من المصريين: هل ذهب الإرهاب البغيض إلى غير رجعة أم لا تزال له صولات وجولات دموية أخرى؟ ابتداء فإن السلطة السياسية في مصر تعلمت من تجربة السنوات القليلة الماضية ألا تقطع بمسألة الإجهاز على الإرهابيين، فقد سبق أن خرجت تصريحات عقب عمليات إرهابية دموية تتحدث عن «استئصال شأفة الإرهاب»، ولم تمر سوى أيام حتى وقعت أخرى بعضها أكثر دموية، ومن هنا عادت التصريحات لتتزن وتتواضع قليلا لتؤكد هذه المرة على بذل أقصى جهد ممكن في سبيل تقليص الإرهاب، وتقليم أظافر ومخالب الإرهابيين، أو بطريقة أكثر دقة «تخفيض الإرهاب إلى حده الأدنى». فالتجربة أظهرت أن الإرهابيين يغيرون تكتيكاتهم بشكل سريع، فبعد عمليات نمطية في سيناء هوجمت فيها كمائن لقوات الشرطة والجيش وفخخت طرق ودروب ومدقات ومسارب أمام أرتال عسكرية وناقلات جند، انتقل الإرهابيون إلى تنفيذ عدة هجمات على الكنائس، فلما تم تأمينها بحرص شديد، نقل الإرهابيون نشاطهم إلى الصحراء الغربية لمهاجمة كتائب لقوات حرس الحدود المرابطة على الحدود مصر مع ليبيا، ثم عادوا إلى سيناء، وانتقلوا إلى الكنائس من جديد، وبعدها نفذوا عمليات صغرى في القاهرة، لتعود سيناء مرة أخرى إلى الواجهة، وهكذا في مراوغة لا تنقطع. وربما دفعت هذه التكتيكات والتحركات السريعة السلطات المصرية إلى إدراك أن الحرب ضد الإرهابيين لا يجب أن يتم تكثيفها في مكان واحد وهو سيناء، حيث يوجد فرع لتنظيم "داعش" أو ما يسميه الإرهابيون «ولاية سيناء»، بل يتم على التوازي تأمين كل الأراضي المصرية، ليس فقط لمنع الإمداد والتموين عن إرهابيي سيناء، إنما أيضا للحيلولة دون فرارهم إلى أماكن أخرى لتنفيذ عمليات نوعية أثناء جريان «العملية العسكرية الشاملة» بما يؤثر على معنويات القوات، ويتسبب في حرج بالغ للسلطة السياسية أمام الشعب، وقد يشكك في قدرة الدولة على التعامل الكفء الناجع مع التنظيمات الإرهابية. وحتى لا تصل السلطة بالشعب إلى مرحلة التشكيك تلك حرصت هذه المرة على عدم التورط في أي وعد بالقضاء المبرم على الإرهاب، وإن كانت البيانات العسكرية المتوالية تصور للناس أن تلك الجولة مختلفة في العزم والقدرة والحجم والأهداف والنتائج فإن خبرة السنوات الماضية، التي يمكن مراكمتها على خبرة مصرية طويلة تمتد لأكثر من سبعين سنة في مواجهة موجات إرهابية متعاقبة، جعلت السلطة تتريث الآن وتفكر مليا قبل أن ينطق المسؤولون بأي كلام عن هزيمة منكرة للإرهابيين. ورغم أن الخبراء والباحثين المدنيين المختصين في قضايا الجماعات والتنظيمات الإسلاموية المتطرفة يقدرون أن المواجهة الجارية حالياً مختلفة فإن أيا منهم لم يذهب إلى القول إن الإرهابيين إلى فرار أبدي، لاسيما أن الانتقادات الموجهة لتعامل السلطة مع الجماعات والتجمعات والتنظيمات الإرهابية لا تزال قائمة، وأولها أو جوهرها أن «الدولة تحارب الإرهابيين لكنها لا تحارب الإرهاب»، بمعنى أن الدولة لم تبدأ بعد، وفي عزم وشمول واقتناع، الإجراءات غير الأمنية والعسكرية الواجب اتخاذها من أجل تفنيد أفكار الإرهابيين، وتجفيف المنابع التي تمدهم بعناصر جديدة، وحرمانهم من أي بيئة حاضنة أو منتجة أو موظفة لهم. وخبرة مصر الطويلة في مواجهة الإرهاب لابد أن تفرض عدم إهمال الأساليب الناعمة أو اللينة من تعليم وتثقيف وفتح للمجال السياسي أمام التيار المدني، وتطبيب لعوز الطبقات والفئات والشرائح الفقيرة، فمثل هذه الوسائل باتت ضرورية، وتأجيلها أو التنصل منها أو الاعتقاد في ضآلة جدواها عمل غير حصيف. فالسلطات المصرية طالما استعملت القوة الأمنية والعسكرية القوية في مواجهة تلك التنظيمات طيلة أربع موجات إرهابية مرت بها البلاد منذ الأربعينيات وحتى الآن، لكن الإرهاب يضعف مؤقتا ثم يعود أكثر ضراوة، مستفيدا من خبرات الإرهابيين السابقين والمتقاعدين والمستمرين في قيادة التنظيمات. إن المثقفين والساسة في مصر لا ينزعجون كثيرا إن فوجئوا بعملية إرهابية كبيرة بعد انتهاء «العملية العسكرية الشاملة» أو أثناء تنفيذها، لكن انزعاجهم لا ينقطع حيال تأجيل «المواجهة الشاملة» التي تعني توظيف الأساليب اللينة في مكافحة التنظيمات الإرهابية بشكل دائم، وضرورة إيمان السلطة الجازم بجدواها.