لعبت الثورة الرقمية دوراً مزدوجاً في مسألة التواصل بين البشر، ففي الوقت الذي منحت فيه فرصة للمتباعدين جسدياً من أبناء عائلة ممتدة أو عشيرة أو قبيلة متفرقة في البلاد، وربما متناثرة في قارات العالم الست، أن ينشئوا صفحة على أي من مواقع التواصل الاجتماعي أو غرفة للدردشة يتبادلون فيها الحديث بما يزيد من روابطهم، فإن الجالسين معاً ربما في حجرة واحدة ينشغل كل منهم بهاتفه أو حاسوبه، وقد أعطى ظهره للآخر، وراح يحدث أناساً يدرك أنه لن يلتقي بهم في المستقبل أبداً. إن هناك نقاشاً علمياً يتعمق حول دور التحديث والحداثة في تفكيك أو تحلل البنى الاجتماعية التقليدية عبر تغيير أنماط القيم السائدة في بعض المجتمعات المغلقة والمعزولة، التي يتم الإلقاء بها فجأة في نهر العولمة الدافق المتجدد، الذي نقل العالم من «قرية صغيرة» حسب التعبير الذي شاع في أوائل تسعينيات القرن المنصرم إلى «غرفة ضيقة» مع ظهور «الفيسبوك» وأضرابه. وهنا يثار التساؤل: هل بوسع القبيلة العربية أن تبقى «وحدة اجتماعية متماسكة» مع توزع اهتمامات وولاءات وانشغالات عشائرها وبطونها وأفخاذها وأفرادها وذوبانهم في كيانات إنسانية تتمدد فوق كوكب الأرض برمته؟ وهل تسهم وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية في هذا الذوبان وتسرع منه أم تفعل العكس؟ إن الخائفين على «الهوية» و«الخصوصية» ملأوا الدنيا ضجيجاً وأنيناً من أن فرادتهم ومواطن تميزهم وموروثهم الحضاري والثقافي في خطر داهم بفعل سرعة الاتصالات وتدفق المعلومات والقيم بشكل غير متوازن من الشمال إلى الجنوب، وبلغ التوجع مداه مع ظهور «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب» بل تجدد في ركابها الحديث المسهب عن المؤامرة، لكن ما حدث في الحقيقة أن هذه الوسائل أتاحت لأصحاب الخصوصيات تلك من عرضها على العالم بطريقة ميسرة وغير مكلفة، بل أعطتهم ما كان في الماضي فوق طاقتهم، وليس عجباً هي الصفحات التي أنشأها بعضهم على «فيسبوك» لتضم أبناء القرية أو القبيلة أو العائلة المتفرقين حول العالم، الأمر الذي يعيد طرح الاستنتاج النهائي لنظريات التحديث وهو: «القديم لا يمكن أن يموت كله». ومع هذا فإن وسائل التواصل الاجتماعي ماضية في زلزلة المجتمعات العربية، كما تزلزل غيرها، باعتبار هذه الثورة الرقمية أحد تجليات العولمة الثقافية والتقنية في تصوراتنا عن الدولة والسيادة والمواطنة والمسؤولية الإعلامية، وتقديرنا للاعبين السياسيين الجدد ومنهم نشطاء الإنترنت الذين بات بوسعهم أن يشكلوا الرأي العام المحلي، ويفرضون تحدياً أمام السلطات يدفعها إلى البحث عن سبل مختلفة في الرقابة والتحكم والمتابعة، حتى لا يفلت الزمام من أيديها. لكن العلاقات الإنسانية تأثرت سلباً حين زاد مستوى تداول البذاءة السياسية مع الثورة الرقمية التي يرى المفكر نبيل عبد الفتاح أنها أتاحت «حريات بلا حدود، وعلى رأسها الحرية الأم: الرأي والتعبير بلا قيود من خلال المدونات، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإباحية التي تعيد تشكيل هذه الدوافع وتحويلها وفق بنى من التصورات غير المألوفة، لاسيما في المجتمعات التي تسودها المحرمات والأفكار التقليدية والدينية إلى جانب نثارات الحداثة والتحديث، وانعكاس ذلك على أنظمة الأسرة والعلاقات القرابية..أنساق من اللغة الرقمية، يغلب عليها الانطباعات السريعة والسانحة، واللغة المحلية العامية، وبعضها جارح في التعبير عن الرأي، لكنها صريحة وجهيرة وترمي إلى نزع الهيبة، وتمزيق أقنعة السلطة عن بعض رجالها البارزين، وهي تعبير عن انكسار حواجز الخوف والرهبة. اللغة الرقمية الجارحة ترمي إلى تحرير لغة السياسة من جمودها وطابعها الفوقي والاستعلائي والشعاراتي والتعبوي والخشبي، والتعميمي، وتحرير لغة السياسة والخطاب السياسي والاجتماعي السلطوي والفوقي من أسفل، من خلال بلاغة السخرية والهجاء لمكانة السلطة، ونزع القداسة وأشباهها التي تحيط بها. هي لغة تحريرية هجومية، لكنها في ذات الوقت رد فعل على السلطة في عديد الأحيان... هي لغة تعبر عن حالة الفوضى النسبية والسيولة والتحولات التي تعتري حياتنا، ومواقفنا، ورغباتنا، ومخاوفنا، ورعبنا، وغواياتنا، وبذاءاتنا، وأكاذيبنا، وبعض حقائقنا، ودواخلنا، وتعصبنا». إن هذه الثورة الرقمية بقدر ما يمكن أن تكون «تكنولوجيا تحرر» حين تتيح للمحكومين فرصة لانتقاد السياسات القائمة والتعبير عن آرائهم في الأداء الحكومي، فإنها تتيح على النقيض من ذلك للسلطات المستبدة أن تمارس دعايات مغرضة بغية غسل الأدمغة تلويث سمعة معارضيها والتحكم الشديد في المجال العام. لكن في كل الأحوال فإن ثورة الاتصال لديها آليات داخلية قادرة على تصحيح مسارها، طالما أنها تعزز الحريات العامة، أو تفتح باباً للإرادات المنفردة كي تعبر عما تؤمن به وتطمح إليه.