لا يخلو التاريخ من مجاز، فالمبالغات تحل فوق رؤوس أبطاله، إيجاباً وسلباً، وفق مصلحة وموقف أو رؤية وتقدير المؤرخين، والمعارك الطاحنة التي دارت رحاها في كل مكان على وجه البسيطة تقريباً، يرويها كل طرف من وجهة نظره، فيغالي المنتصر في تقدير انتصاره، ويقلل المهزوم من وطأة انكساره، بل قد يخرج الطرفان يتحدثان عن الانتصار في معركة واحدة، كل من وجهة نظره، سواء لعدم إحباط الحاضرين أو تحميسهم، أو حتى لحفظ ماء وجه القادة والساسة. وكلما تباعدت المسافة الزمنية بيننا وبين تلك المعارك، تم استدعاؤها في سياقات سياسية وعسكرية جديدة، لتوظيف الجانب الإيجابي فيها كي يتم تحفيز جنود اليوم وتحقير شأن أعدائهم. ولا يقتصر المجاز مع التاريخ في المبالغة، بل يمتد إلى الوصف، فنتحدث عن حكمة أو شجاعة أو عدل ملوك وسلاطين وأمراء، وفي المقابل نتحدث عن حماقة وخور وظلم أمثالهم ممن لا يروقون لنا. ونروي أحداثاً كبرى كالانتفاضات والثورات والهبات والاحتجاجات من وجهتي نظر متناقضتين، وفق أهواء أو مصالح أو الانحيازات الفكرية للرواة، سواء كانوا مؤرخين محترفين أو من يتخذون التاريخ مادة للسير الشعبية والأشعار الملحمية والقصائد بمختلف أشكالها والقصص والروايات والمسرحيات والأغاني. وحتى لو كان المؤرخ يروم الحقيقة، باحثاً في الوثائق المحفوظة، وجامعاً الحكايات المتناثرة على أفواه الناس عبر مقابلات يجريها معهم، أو إنصات طويل لما يصدر عنهم، أو مطلعاً على ما ورد من أخبار حوتها الصحف والمنشورات، فإنه ليس بوسعه أن يتخلى عن إعمال الخيال لردم الهوة، أو يتجنب انحيازاته الذاتية. وفي الخيال والذات يسكن المجاز، شاء أم أبى. فردم الهوة، وإتمام الناقص، لوصل ما انقطع، وحتى تأويل الموجود والمتوافر، ينطوي دوماً على التخيل والتقدير الذاتي، وهي مسألة أدركها واحد من أهم المؤرخين، وهو ر. ج. كولنجوود، الذي يقول: «لو أننا نظرنا إلى البحر، ورأينا مركباً ثم عدنا بعد خمس دقائق، فنظرنا مرة ثانية، ووجدنا المركب في مكان آخر غير الأول، لكان علينا أن نتبين حينئذ أن المركب مر عبر مساحات مائية في أثناء سيره بين النقطتين، في الوقت الذي لم نكن فيه نتتبع سيره، ولنا في هذا مثل على التفكير التاريخي، ونحن بنفس الأسلوب، نجد أنفسنا مضطرين لأن نتصور أن قيصر قد سافر من روما إلى الغال، حين يقال لنا إنه كان في هذين المكانين المختلفين في هذه الأوقات المتتالية. وعملية الإدماج هذه بشقيها أو طابعيها، سأسميها خيالاً، يفرضه الاستدلال العقلي البحت.. وهذا الخيال، على الرغم من أنه ينشط بطريقة لاشعورية لا نتبينها، فإنه بملئه الفراغ الذي نجده في كتابات الرواة الثقات، يجعل القصص أو الوصف التاريخي حلقة متماسكة متصلة». فالمؤرخ يجد نفسه أمام روايات عديدة، متلاصقة ومتباعدة، ومتشابكة ومنفصلة، ومتسقة ومتناقضة، فيكون عليه أن يتفاعل معها جميعاً في سبيل خلق معنى لما يسجله أو يدونه، فيكون أشبه بالنعامة التي تلتهم أخلاطاً من الأشياء، وتدفعها إلى معدتها، فتصير مادة سلسة قابلة للهضم. وبذا يقتضي التأريخ تعلماً وتدريباً على مهارة التفكير، وهي مسألة لا تنفصل عن التخيل، واستحضار المجازات بشتى صنوفها. وهنا يقول المؤرخ الأميركي «كافين رايلي»: «المصلحة أو المنظور الخاص أو القيم أو الارتباطات هي التي تخلق كل واقعة، من بين عدد لا نهائي من الممكنات الأخرى، كما أننا لا نملك قط كل الوقائع المتعلقة بأتفه حدث. كما أن الوقائع المحددة ليس لها قيمة في ذاتها، وليس لها أهمية أساسية. وإنما يكون لها معنى في إطار الأسئلة التي تطرحها وحسب. أما التعليم فهو معرفة كيف نخلق الحقائق والتفسيرات، وكيف نختبرها للتحقق من صحتها، وكيف نطرح أسئلة مفيدة، ونجيب عليها، ونخلق معنى ما، ونقيم مدى الدقة، ونفكر بشكل نقدي وواضح. وإذا كان التعليم هو تدريب على التفكير، فإن تعلم التاريخ هو تدريب على التفكير في الماضي، وفي علاقة الماضي بالحاضر». وإذا كان المجاز يتلبس تقديرنا لأحداث الحاضر، أو وصفنا لها، وتعاملنا معها، وتوظيفها لخدمة مصالحنا، ودفع أغراضنا قدماً، فإنه يحضر، من باب أولى، في وصفنا لما جرى في القرون البعيدة، وسعينا إلى الاستفادة منه في حياتنا المعاصرة، لاسيما في ظل اتفاقنا جميعاً على أنه من لا ماضي له لا حاضر له، أو أن المعاصرة لا يجب أن تنسينا الأصالة، وأن القديم لا يموت كله، وأن الجذور لا يمكن خلعها طالما أن ذاكرة البشر قادرة على مدهم بمعلومات عن تصرفات السابقين الأولين.