انتشرت أواخر شهر رمضان سلسلة من الإشاعات تلقفها السوريون في مهاجرهم بتفاؤل كما يتلقف الظامىء رشفة ماء، وكان أبرزها إشاعة حول عزم النظام السوري إصدار عفو عام عن كل المعتقلين والمطلوبين، وقد زاد عدد الملاحقين على مليون ونصف المليون من الذين انتشرت أسماؤهم في مواقع الأنترنت، كما انتشرت أنباء عن إنهاء الحواجز الأمنية، وعن اقتراب صدور هيكلة جديدة لأجهزة الأمن، وجعلها مؤسسة واحدة تجتمع فيها عشرات الفروع الأمنية، وتسربت أنباء عن انتشار الشرطة العسكرية الروسية وسيطرتها على ميليشيات الشبيحة، وعن ضم هؤلاء في الجيش النظامي، وكبرت أفراح مؤيدي النظام بانتهاء القضية السورية، وبعودة الحياة في دمشق إلى طبيعتها بعد أن تم تدمير الغوطة واليرموك وريف دمشق، وتهجير سكان هذه المناطق، وكان الانتصار الأكبر حين أجبر النظام ميليشيات «داعش» على إعادة التمركز والانتشار في البادية أو الذهاب إلى معسكرات «داعش» في منطقة مزيريب في الجنوب (في انتظار دور جديد لهم)، وقبل النظام المشاركة في إعداد دستور جديد، أو إجراء تعديلات على دستور 2012، وفي الوقت ذاته، أعلن تنظيم (البي واي دي)، استعداده للتفاوض مع النظام دون شروط، وبدأت الأخبار تتوالى عن قرب عودة المهجرين من لبنان، وكل ذلك يوحي باقتراب الوصول إلى حل سياسي يضمن بقاء النظام واستمراره، وسيتم الاكتفاء بمنح المعارضة مشاركة في حكومة وحدة وطنية، حسب الخطة الروسية. لا أدري إن كان أحد من أولياء الدم، أو من المهجرين، أو من ذوي المعتقلين أو من المهجرين قسراً أو طوعاً قد يقبل بهذه النهاية المفجعة للسوريين بعد ثماني سنين من كارثة الدمار الشامل والإبادة الجماعية، التي شغلت العالم كله، وهل يمكن لأحد أن يتخيل إمكانية أن يوافق هؤلاء المعذبون في الأرض على العودة أسرى إلى سيطرة من دمروهم وشردوهم، ولاسيما أن النظام وضع شرطاً للعودة تم إعلانه رسمياً، هو تقبيل «الحذاء» العسكري، بما يعني إذلال السوريين وإرغامهم وإهانتهم. هذا المخطط الذي تسعى له روسيا لترسيخ انتصار النظام على الشعب ليس عملياً، ومحال أن يؤسس لعودة الأمن والأمان، فسيبقى المطلوبون (حتى لو صدر عفو عنهم) حذرين من تعرضهم للاعتقال، بل إن النظام سيصبح أشد وأعتى في قبضته الأمنية، وسيكون الشعب المعارض كله قيد الاعتقال، ولن يكون الخطر على العائدين من النظام وحده، وإنما سيكون من الشبيحة الذين اعتادوا على القتل والإذلال. يتجاهل الروس مانص عليه بيان جنيف، وما أقرته القرارات الأممية بتشكيل هيئة حكم انتقالي تضم المعارضة مع ممثلي النظام، مع مستقلين وتكنوقراط، لترسم مستقبل سوريا وتصل بها إلى حكم غير طائفي، وتقوم بتشكيل مجلس عسكري مشترك يقوم بإعادة هيكلة عامة للجيش ولأجهزة الأمن، ثم تقوم بإعداد الدستور والاستعداد لانتخابات برلمانية ورئاسية. إن البدء بإعداد دستور والانتقال إلى الانتخابات تحت سيطرة النظام (الذي لم يتوقف لحظة عن القصف والتدمير وهو يتابع رؤيته للحل العسكري ) سيكون التفافاً على الحل السياسي وإجهاضاً له، وامتهاناً لإرادة الشعب السوري، واستخفافاً بكل قرارات الأمم المتحدة، وانتصاراً لبقاء إيران وتحقيقاً لطموحاتها التوسعية في سوريا والمنطقة كلها عبر النظام الذي استدعاها للسيطرة على سوريا، ليضمن بقاءه من خلالها. ولئن كانت الولايات المتحدة قد سلمت الملف السوري كله إلى روسيا، فإن عواقب هذا الموقف القاسي على الشعب السوري، ستنعكس سلباً على المنطقة كلها، فلن يعود اللاجئون في لبنان والأردن، لأنهم لن يكونوا في مأمن تحت سلطة النظام، ولن يعود اللاجئون السوريون من أوروبا التي بدأ اليمين فيها يعلن ضيقه بهم وبسواهم من اللاجئين، وستبقى القضية السورية مفتوحة على نزف الدماء وعلى الظلم، وعلى احتمالات الثأر المتبادل مستقبلاً. يجب على المعارضة أن تتمسك بالقرار 2254،وألا تشارك في أي مقترح أو خطة تتجاوز تشكيل هيئة حكم انتقالي، ومجلس عسكري مشترك، وأن تحافظ على المبادئ التي أعلنها مؤتمر الرياض، ولن يكون بوسع أحد أن يفرض على السوريين ما يرفضونه، ولم يبق لدى شعبنا ما يخسره، ولتبق الحرية والكرامة وإنهاء الاستبداد أهدافاً لابد من الوصول إليها مهما طال الزمن.