تشكل الإحصائيات الصحية واحدة من أفضل السبل لرسم صورة سريعة، وإنْ كانت سليمة ودقيقة، عن مدى رفاهية وسعادة الشعب والأفراد في دولة ما. ففي الوقت الذي قد تعكس فيه المؤشرات الاقتصادية العامة، مثل حجم الناتج القومي الإجمالي، أو متوسط دخل الفرد، صورة غير دقيقة عن مستوى رفاهية وسعادة الأفراد، نجد أن البيانات الصحية الخاصة بهؤلاء الأفراد، وتلك المتعلقة بأسباب وفياتهم، تمنحنا الصورة الحقيقية لنوعية الحياة التي يحيونها. ومن بين مصادر البيانات والإحصائيات الصحية والطبية، يشكل التصنيف الدولي للأمراض حجر الزاوية، حيث يمكن من خلاله تجسيد الحالة الإنسانية من المهد إلى اللحد، بما في ذلك جميع الأمراض والعلل والإصابات التي يتعرض لها المرء خلال رحلة حياته، وفي النهاية سبب وفاته، من خلال رمز خاص يعبر عن كل من هذه الأحداث. وبناء على هذه الخلفية، أطلقت منظمة الصحة العالمية النسخة الحادية عشرة من التصنيف الدولي للأمراض (ICD-11)، صباح يوم الاثنين الماضي الثامن عشر من شهر يناير 2018، وبعد ثمانية عشر عاماً من الجهد الدؤوب، كي يتسنى للدول الأعضاء في المنظمة تجربته وتطبيقه، قبل اعتماده بشكل نهائي ضمن أجندة الاجتماع السنوي في العام القادم لجمعية الصحة الدولية (World Health Assembly). وتعتبر النسخة الحادية عشرة هذه، والتي استغرق إنجازها أكثر من عقد كامل من الزمان، تطوراً هائلاً وملحوظاً عن النسخة العاشرة القديمة. فبداية، تم تحديث تصنيف الأمراض في النسخة الجديدة، بشكل يعكس فيه التصنيف الحالي مفاهيم الطب الحديث في القرن الحادي والعشرين، ويتضمن التطورات والاختراقات التي تمت مؤخراً في مجالي الطب والعلوم. ثانياً؛ تم تصميم التصنيف الحديث بشكل يسمح له بالاندماج والتوافق بسهولة ويسر مع برامج التطبيقات الصحية الإلكترونية، ومع نظم المعلومات بوجه عام، حيث تتميز النسخة الجديدة بكونها رقمية إلكترونية بشكل كامل، مما سيجعل من استخدامها وتطبيقها في العيادات والمستشفيات أسهل وأيسر. كما ستتيح النسخة الجديدة إدخال قدر أكبر من المعلومات، وتحد من هامش الخطأ البشري عند إدخال البيانات، وهي جميعها صفات ستجعل التصنيف الدولي متوفراً على نطاق أوسع، وخصوصاً في الأماكن الشحيحة المصادر أصلاً. أما الصفة الثالثة المهمة في التصنيف الجديد، فهي كونه قد تم إنجازه من خلال أسلوب غير مسبوق في التاريخ، تميز بالتعاون والشفافية التامة. فلوقت ما، كانت درجة تعقيد التصنيف الدولي للأمراض تجعله أداة عسيرة الاستخدام، تتطلب شهوراً من التدريب للتطبيق الصحيح، لدرجة أن من بين جميع الوفيات البشرية السنوية، كانت نسبة الثلث فقط يتم تسجيلها بشكل سليم، وهو ما جعل أحد أهم أهداف النسخة الجديدة سهولة الاستخدام. ولا يسمح فقط التصنيف الدولي للأمراض بتسجيل العوامل التي تؤثر سلباً وإيجاباً على الصحة، أو الأسباب الخارجية للوفيات والإعاقات، وإنما يمنحنا صورة شمولية عن جميع جوانب الحياة التي يمكن أن تؤثر على صحة الفرد. وبذلك تشكل الإحصائيات الصحية القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها الغالبية العظمى من القرارات في نظم الرعاية الصحية الحديثة، والقاعدة الأساسية أيضاً لفهم لماذا يمرض الناس، وما الذي يؤدي في النهاية لوفاتهم. وتسمح أيضاً الإحصائيات الطبية التي ترتكز على التصنيف الدولي للأمراض برسم خرائط انتشار واتجاهات الزيادة للأمراض والأوبئة، والتي على أساسها يتم بناء قرارات توجيه مصادر الخدمات الصحية المتاحة، وقرارات تخصيص المصادر المالية وكيفية توجيهها، بالإضافة إلى تحديد الأولويات في مجال الأبحاث والدراسات الطبية والصحية. وتحمل رموز التصنيف الصحي الدولي للأمراض في طياتها أهمية مالية فائق الأهمية، حيث يتم على أساسها تحديد مجالات الإنفاق للمصادر المتاحة، وتوجيه المصادر إلى مجالات البحث والدراسة الأكثر أهمية. وفي بعض الدول التي يعتمد نظام الرعاية الصحية فيها بشكل أساسي على التأمين الصحي الخاص، كأهم مصدر للتمويل، كالولايات المتحدة مثلاً، تعتبر رموز تصنيف الأمراض نقطة المرجعية الأساسية في حساب التكاليف، ودفع الفواتير، وتسديد النفقات، وهو ما ينعكس على أسلوب تمويل نظام الرعاية الصحية في مجمله. وبالنظر إلى أن عدد أفراد الجنس البشري تخطى حالياً 7.4 مليار إنسان، يتحدثون قرابة السبعة آلاف لغة، يوفر التصنيف الدولي للأمراض وسيلة للتواصل، تتخطى حاجز اللغة، ويمنح أفراد المجتمع الطبي مفردات عالمية مشتركة، من خلال رمز خاص لكل مرض وعلة، يمكن للجميع من خلالها التسجيل، والإبلاغ، ومراقبة جميع الأمراض المعروفة للجنس البشري، ودون الاصطدام بحاجز اللغة، أو باختلاف المفردات والتعريفات.