في الثاني عشر من مارس 1964 رحل عن عالمنا عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، الذي حمل لواء المعرفة والثقافة العربية لأكثر من نصف قرن. الكثير من الكتب والدراسات والرسائل الجامعية حاولت أن تركز على هذا الأديب وعلى فكره وإنتاجه وتراثه الموسوعي الضخم، والذي أصبح علامة بارزة في تاريخ الفكر والأدب العربيين، وعلى عصاميته التي تفوَّق بها على أقرانه من أصحاب الشهادات العلمية والألقاب الأكاديمية الكبيرة دون أن ينال سوى شهادة المرحلة الابتدائية. وقد ألقى كتاب الدكتور محمد فتحي فرج «العقاد الذي لا يعرفه كثيرون»، الضوء على ملامح شخصية العقاد، وصحح الكثير من الأخطاء التي ألصقها البعض بهذه الشخصية الأدبية الكبيرة. فالعقاد لم يكن، كما يقول مؤلف الكتاب، بالصورة التي رسمها له أولئك، كرجل متسلِّط عابس متجهِّم مبتعد كلياً عن مباهج الحياة ومسرّاتها، مُنكباً على العمل والقراءة والكتابة.. بل كان يحب الحياة والفن والشعر ويضحك للنكتة والدعابة.. كان رقيق المشاعر، يحب الأطفال ويؤرقه عذاب الضعفاء والمظلومين، وإذا أدرك الخطأ لا يتمسك برأيه. كما كان أديباً جعل من الأدب شغله الشاغل، وقد خاض رحلة كفاح وجهد متواصلين، إذ علّم نفسه بنفسه في عصر المؤسسات العلمية والتعليمية والجامعات ومعاهد العلوم المختلفة، فأثرى الحياة الأدبية والمعرفية حتى أصبح رمزاً من رموز التنوير. لقد حارب الجهل وبدَّد بعلمه الظلام، وحمل مشعل الثقافة بمفهومها الواسع. وعلى مدى خمسين عاماً، حارب ظواهر الفوضى ومذاهب الهدم والدجل والجمود والتخلف والإلحاد. لذلك فالعقاد من الشخصيات الأدبية المهمة في العصر الحديث، وقد تميز بصفتين مهمتين: الأولى: نهمه الشديد للمعرفة والقراءة، والثانية: تأثره العميق بدينه وتراثه وحضارته الإسلامية. وينسب إلى العقاد قوله: إن المقياس الوحيد الذي أقيس به جهدي في جميع أدوار حياتي هو النهم إلى المعرفة، ولا أذكر سناً لم أكن فيها أحب أن أعرف، وأن أقرأ وأن أجتهد وأن أفيد. وكذلك قوله: الفارق بين القراءة والاطلاع هو أن الإنسان قد يقرأ ولا يطلع، وقد يطلع ولا يقرأ.. فالقراءة إحدى وسائل العلم وليست وسيلته الوحيدة. ثم يشرح قائلاً: الذي يقرأ ليكتب ويخطئ هو «موصل رسائل أو كاتب بالتبعية وليس كاتباً بالأصالة». ومن أقواله كذلك: «لست أهوى القراءة لأكتب ولا أهوى القراءة لأزداد عمراً في تقدير الحسابات، وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياةً واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة هي التي تعطيني أكثر من حياة. فالقارئ الذي لا يقرأ إلا الكتب المنتقاة كالمريض الذي لا يأكل إلا الأطعمة المنتقاة، إذ يدل ذلك على ضعف المعدة أكثر مما يدل على الجودة والقابلية، فإن كنتَ ضعيفَ المعدة ستتحاشى السمين، وإن كنت من ذوي المعدة القوية فاعلم أن لك من كل طعام غذاءً صالحاً». وكان العقاد عميق الإيمان بالله تعالى، وقد أتاه هذا الإيمان من مصدرين: الشعور والوراثة، حيث نشأ بين أبوين متدينين لا يتركان فريضة من فرائض الدين، وقد وعى على والده يستيقظ قبل الفجر كل يوم ليؤدي الصلاة، ويبتهل إلى الله بالدعاء ولا يزال في مصلاه إلى طلوع الشمس، كما كان يرى والدته تؤدي الصلوات الخمس وتصوم وتطعم المساكين. ما أحوج شباب اليوم إلى الاقتداء بمثل هذا النموذج في عصاميته وكفاحه واعتماده على نفسه في تحصيل العلم والمعرفة، وفي مثابرته على القراءة والمعرفة، وتمكنه من تنمية قدراته وملكاته الفكرية والإبداعية، وفي غزارة إنتاجه.. حتى وصل إلى ما وصل إليه من منزلة فكرية وأدبية سامية.