يسري المجاز في أوصال السياسة، بأفكارها وقيمها وإجراءاتها وممارساتها، صاعداً من الثقافة السياسية للفرد وحتى شكل الدولة ووظيفتها والنظام العالمي بتصوراته وتطوراته. فالدولة، من البداية إلى النهاية، يمكن النظر إليها على أنها مجتمع متخيل أو مجازي، إذ تبدو كياناً يرتبط أعضاؤه به عقلياً ووجدانياً، ويتحمل بعضهم البعض من أجل عيش مشترك، وبذا تبدو حقيقة عقلية في نظرنا، لأن الجميع يتخيلونها على هذا النحو. في الوقت نفسه نجد أن السياسة واللغة قرينتان متلازمتان، حيثما وجدت الواحدة لاحت الأخرى، فإن لم تنكشف بوجهها، تكون ثاوية تحت قرينه. وتبدو أبنية الخطاب حول العالم الاجتماعي مشحونةً بالسياسة، وفي ركاب هذا ترعرعت المجازية لانتزاع طبيعة المجتمع وقدريته، وتبرير الوقوع في أحابيل الاستراتيجيات المتعلقة بآليات السيطرة، بل إننا إن «كشفنا الغطاء العرفي عن كل من البلاغة الإنشائية ونظرية الأدب، يتبين أنهما ممارستان سياسيتان بامتياز، ومثلما كانت الأولى في نشأتها جزءاً من صراع أيديولوجي عقائدي سياسي في عصورهما الزاهرة، فإن تاريخ الثانية جزء من التاريخ السياسي والأيديولوجي لعصرنا.. وتبرؤهما وتعاليهما على الاشتباك مع مشكلاتهما ليس مجرد خرافة أكاديمية، بل تجسيد لسمة السلطوية في المجال النقدي»، حسبما انتهى سيد ضيف من دراسته لأشعار فؤاد حداد. والخطاب السياسي الشفاهي، الذي يعتمد على الإطناب ويحتفي بالمبالغة والذلاقة وطلاقة اللسان، هو في نظر عبد السلام المسدي صنو الشعر، تسبح فيه اللغة بين القول والإيحاء، بين الحقيقة والمجاز، رغم أن الأولى تروم الإقناع والثاني يروم التخييل، لكن مع العصر الحديث بدأ الزحف على أغلى كنوز اللغة، وهو المجاز، من طامعين، الأول لاطفها وجاملها، وهو الاقتصاد، حيث بدأت الدعاية والترويج للمنتجات الصناعية المتنوعة والمتدفقة بلا هوادة تتوسل بنعومة اللغة وسحرها في جذب المستهلكين أو خداعهم، لتولد تعبيرات جديدة من رحم آليات السوق التي صهرت بنى اللغة في مرجل جديد، لا ينشغل بالمصداقية بل بالقدرة على التأثير في السوق. أما الثاني فقد تعامل معها بقسوة وغشم، وهو السياسة، التي اغتصبت الحقيقة، وأحلت محلها المجاز، حيث توظف اللغة في لعبة الإلهاء والإغواء والإغراء وتحقيق الأهداف الوضيعة أحياناً، بدءاً من التضمين والتداعي والالتفات وصولا إلى المكر والخداع والمخاتلة والمناورة، مروراً بالتخييل والمجاز والإيهام. وفي الخطاب الرسمي الشفاهي تفضل الجماعة أن تردد عبارات مركبة، مشحونة بالصور والسمات والصفات والمجازات، فيقول الخطيب «الجندي الشجاع» بدلا من «الجندي» و«الملك المفدى» بدلا من «الملك»، وهكذا، بل يستخدم الرسم بالكلمات في التشهير السياسي بالثقافات النامية، أو الدول التي تحكمها أنظمة مستبدة أو شمولية، لنرى تركيبات لغوية من قبيل «عدو الشعب» و«تجار الحرب الرأسماليون»، ووجدنا كيف كان المسؤولون في الاتحاد السوفييتي يصرون على استعمال عبارة «ثورة 26 أكتوبر المجيدة»، بل كانوا يعلنون كل عام النعوت الرسمية الواجب النطق بها، كما وجدنا كيف كان الأميركان دائمي الحديث عن «الرابع من يوليو المجيد»، في عودة إلى الصيغ النعتية الهومرية من قبيل: «نستور الحكيم» و«أدويسيوس الماهر». وهنا يرى مصطفى ناصف أن مقولات من قبيل التقدم والتنوير والإرهاب والديمقراطية الغربية، يصعب الفصل فيها بين خيالات وحقائق، وكذلك كلمات من قبيل الأمة والتاريخ والتراث والهوية والتغريب.. لا يمكن التعامل معها كحقائق صرفة، بعيداً عما فيها من خيالات، وما تخضع له من اختيار وإرادة وحذف وانتقاء وعزل وتفويض. ويمكن للمجاز أن يسكن أيضاً في اختلاف الناس حول المعنى السياسي، حيث تظهر مساحة تتفاوت من فرد إلى آخر بين حقيقة ما يقال وما يتم إدراكه بالفعل، وفق قدرات كل إنسان واستعداده. فعلى سبيل المثال أُخضع عدة أشخاص للتعبير عن فهمهم للشعار التالي: «لابد من رئيس للجمهورية في فرنسا»، وتبين أن كل الأشخاص لا يفهمون بشكل متساو الرسائل الكلامية التي يتلقونها، فهم يعانون عدم تكافؤ أمام الدلالة، فبينما يستطيع فلان رؤية المضمنات بسهولة، لا يستطيع الآخر إلا إعادة قول ما سبق قوله، لكنه يخلص إلى الاستنتاج الآتي: لا يشكل المعنى موضوع إجماع، فما بالك إن كان هذا المعنى مضمراً. فالمجاز قد يكون عبارة عن الفارق بين ما أدركُه أو أقدره وأنسبُه لشخص وبين ما يدركه هو أو يدفع به عن نفسه أو يثبته من أشياء يعتقد أنها الحقيقة أو جزء منها.