من الظواهر المثيرة للقلق في أميركا اليوم، الازدراء الذي يُكنّه كثير من المواطنين في الوقت الراهن للمؤسسات الوطنية البارزة التي قدمت للبلاد خدمات جليلة خلال القرن الماضي. وأدار الرئيس الأميركي دونالد ترامب حملته الانتخابية ويحكم الإدارة حالياً، استناداً إلى شعاره القائل بأن الحكومات السابقة كانت تخذل الشعب الأميركي. وركّز حملته الانتخابية على فرضية أن واشنطن كانت قد تحوّلت إلى «مستنقع من الفساد ومصالح مكتسبة، الغرض الأساسي منها هو خدمة مصالح خاصة للأثرياء ورجال الأعمال الأقوياء الذين يهتمون بالأرباح وكسب الثروات بشكل سريع أكثر من رفاهية الشعب على المدى الطويل». وفي ضوء ذلك، لاقت رسالته صدى لدى كثير من الأميركيين، خصوصاً بين البيض من الطبقة المتوسطة ممن شعروا بأنهم تعرضوا للخذلان، مع زيادة نسبة ضئيلة في البلاد لثرواتها، بينما يعاني بقية أفراد الشعب من مرارة خسارة الوظائف وتراجع الدخل، إذ لم يعد بمقدورهم أن يأملوا في أن ينعم أبناؤهم برغد الحياة التي عاشوها. وكان من أقوى خصوم ترامب في انتخابات عام 2016 السيناتور اليساري عن ولاية فيرمونت «بيرني ساندرز»، الذي كانت لديه أيضاً رسالة شعبوية، لكن على النقيض من ترامب، نحّى «ساندرز» باللائمة مباشرةً على كبريات المؤسسات المالية التي كانت قد تفادت ثائرة رسالة ترامب. وقد بدأ التحرر من وهم المؤسسات الحكومية في الماضي بحلول ستينيات القرن الماضي، نتيجة لظاهرتين: الأولى تلك الحرب البغيضة في جنوب شرق آسيا التي أدت إلى تجنيد شباب لم يكونوا من الأثرياء أو النافذين بدرجة كافية لتفادي الخدمة الإلزامية، وقد كانت تقتل منهم أعداداً بالمئات كل أسبوع، بينما شاهد الشعب الأميركي ذلك كله مساءً عبر أجهزة التلفاز بالأبيض والأسود. وكانت الظاهرة الثانية هي العنف الذي اجتاح المدن الأميركية بسبب معاملة الأميركيين السود واغتيال روبرت كيندي ومارتين لوثر كينج، اللذين كانا يناضلان من أجل الحقوق المدنية. وعكس انتصار ريتشارد نيكسون في انتخابات 1968 و1972 رغبة المواطن الأميركي العادي الذي كان لا يزال يثق في الحكومة، لكن ذلك كله تبدد مع فضيحة «ووترجيت» التي أدت إلى استقالة نيكسون من الرئاسة في أغسطس 1974. ولم تفلح جهود الرئيسين اللاحقين، جيرالد فورد وجيمي كارتر، في استعادة الروح المعنوية الوطنية، وذلك بسبب التداعيات المفاجئة لأزمة الطاقة والمعضلة في إيران التي احتجز خلالها نظام الملالي الإيراني 52 دبلوماسياً أميركياً لمدة 444 يوماً. ومع انتخاب رونالد ريجان في عام 1980 بدأت استعادة بعض الثقة في الحكومة، لكن بوتيرة بطيئة. ورغم ذلك، كان الإنجاز الكبير لريجان هو إيجاد سبيل للعمل مع القيادة السوفييتية في ظل إدارة جورباتشوف على إنهاء الحرب الباردة وكثير من مظاهرها، لاسيما في مجال سباق التسلح. وجاء القرن الجديد حاملاً معه جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض، وسرعان ما غمر أميركا تأثير هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2011 وزيادة دور وزارة الأمن الوطني في الحياة اليومية. وبحلول ذلك الوقت، كان الناس قد تحرروا من وهم الكونجرس، الذي بدا عاجزاً عن التعاون الحزبي، وتزامنت الحرب التي شنّها وأدارها بوش في العراق بطريقة خاطئة مع نهوض القوة الروسية وتزايد عداء الرئيس بوتين تجاه الغرب. وكانت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 مع نهاية رئاسة بوش هي أسوأ ركود اقتصادي يصيب أميركا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وقد شعر الجميع بمأساة وبؤس كبيرين باستثناء تلك الطبقة شديدة الثراء، ومعها المؤسسات البنكية التي تمكنت من البقاء بعد أن حصلت على إعانات حكومية سخيّة بذريعة أنها مؤسسات عملاقة على نحو يجعل من انهيارها أكبر مما يُحتمل. ثم جاءت إدارة أوباما على وعد ببداية جديدة تجاه القضايا الاجتماعية، لكن محاولاتها تمرير قانون الرعاية الصحية للجميع، أثار حفيظة كثيرين في جناح اليمين، وساعد في إثارة حركة «حزب الشاي»، وسيطرة الجمهوريين في نهاية المطاف على مجلسي النواب والشيوخ. وأوضح الجمهوريون في بداية إدارة أوباما أنهم سيعارضونه في القضايا المهمة كافة. وأدى ارتفاع عدد الهجمات العنيفة من قبل الشرطة بحق السود إلى جعل العنصرية قضية خطيرة على الساحة السياسية الأميركية من جديد. غير أن الهجمات على مؤسسات مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل، من قبل أنصار الإدارة الراهنة، قوضت الثقة في بعض من أكثر المؤسسات الأميركية إخلاصاً وحيادية. وباختصار، تعرضت صورة المؤسسات الأميركية كافة، باستثناء القوات المسلحة، التي حظيت باحترام كبير في نهاية الحرب العالمية الثانية وأثناء إدارات ترومان وآيزنهاور وكيندي، إلى أضرار بالغة. ومن ثم، تركز الحكومة تركيزاً كبيراً على تعريفها للوطنية أكثر من الحزبية والقومية. وللمرة الأولى، على المرء أن يتساءل عما إذا كان النظام الغربي العالمي الذي كان يبدو حتمياً ومثمراً في تسعينيات القرن الماضي، مع سقوط الشيوعية، قد أخذ هو نفسه يعاني المصير ذاته!