في غمرة الحديث الدائر حول تطوير التعليم وتحديثه في بلادنا العربية، نسينا المدرسة الأولى، التي يجب أن يرعاها أي مجتمع سليم، ويعطيها من تفكيره وتعبيره وتدبيره الكثير كي تنهض بما في رقبتها على خير وجه، ألا هي «الأم»، أول المتصلين والمتواصلين مع أطفالنا، ومنها وبها ومعها يبدأ اكتشافهم للذات والمجتمع ولعوالمهم الصغيرة التي تكبر مع الأيام. وقد كان العرب في أيام نهضتهم الحديثة، التي جرت عليها عوامل تعرية وتصفية كثيرة، مدركين لهذا، واستندوا على ذلك القصد في دفاعهم عن «تحرير المرأة» بغية وجود «المرأة الجديدة»، حسب كتابي قاسم أمين، ومن ضمن تحريرها كانت المناداة بتعليمها، حتى إن لم تخرج إلى سوق العمل. ولم يغب هذا عن أمير الشعراء أحمد شوقي وهو ينشد في ثقة: «الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددت شعباً طيب الأعراق»، إذ كان يدرك بخبرته ونظرته، التي تقارن نساء الشرق بما تحقق لنساء الغرب وقتها، أن الأم بوسعها أن تكون مدرسة لأطفالها، تغرس فيهم القيم والتصورات قبل التحاقهم بالمدارس النظامية، ثم وهم يتدرجون في التعليم من دور الحضانة إلى الجامعة، وربما يكون هذا الدور أكثر أصالة ورسوخاً من ذلك الذي يقوم به معلمو المدارس فيما بعد، لأن «التعليم في الصغر كالنقش في الحجر». وقد دارت بنا الأيام فعدنا نتحدث عن عودة التربية إلى جانب التعليم، ونرى للتعليم وظائف أخرى غير إعداد موظفين إداريين وفنيين، كما كان يؤمن الإنجليز أيام الاستعمار، بحثاً عمن يساند تلك الدولة صغيرة السكان في إدارة أكثر من نصف الكرة الأرضية الواقعة تحت احتلالها. فالآن يدور النقاش عن «التربية الأخلاقية» وأهمية وجودها كمساق تعليمي لا غنى عنه، ليس في مواجهة التطرف الديني والإرهاب فحسب، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، في وقف انهيار القيم وتردي الأخلاق مع النشاط المفرط للغرائز، وتوحش الحياة المادية، واستعار النزعات الاستهلاكية، والسباق المحموم في طريق البحث عن حلول فردية، ينسى فيها البعض أنه عضو في جماعة إنسانية عليه ألا يغفل مصالحها العامة، وألا يعتدي على حريات الناس وهو يسعى إلى ممارسة حريته الشخصية. ومثل هذا المساق لا يمكن أن يهمل دور الأم، وهو يمضي من عالم الخيالات والأمنيات إلى عالم الواقع والحقيقة، فهي من بوسعها إقناع أولادها، أكثر من أي أحد في هذه الدنيا، بأن يتمسكوا بالفضائل، ويتركوا الرذائل، ويعضوا بالنواجذ على المحاسن، ويقلعوا عن القبائح، ويدركوا أن الخير أقوى، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأن عليهم واجبات لا يمكنهم التنصل منها، ولهم حقوق لا يجب التفريط فيها. وحتى يتحقق هذا الهدف السامي لابد أن يتسع الإيمان ويتعمق بتعليم المرأة، حتى يصير ضرورة حياتية، على ألا يكون تعليمها لمجرد إعدادها كي تكون موظفة، تسابق الرجال في سوق العمل، أو تمكينها كي تؤدي كل الأدوار، سواء التي تتميز فيها كأنثى، أو تلك التي بوسعها أن تؤديها على وجه لا يختلف عما يفعله الرجال، إنما لتكون أماً وربة أسرة، يتعزز اقتناعها وإيمانها بأن دورها هذا هو أصل لا عذر لها إن أهملته بقيامها بأدوار أخرى أياً ما بلغت مشقتها وعنتها وضرورتها. لهذا يجب أن نميز الفتيات في التعليم تمييزاً إيجابياً، يتيح لهن أن يتعلمن ما يعينهن على تربية أولادهن على أفضل وجه ممكن، إلى جانب المهارات الأخرى التي ترغب النساء في اكتسابها كي يكن ما يردن، ما دمن قادرات على النهوض بأي أعمال تسند إليهن في أرجاء مجتمعاتنا ومجالات انشغالها. وإذا كان كثير من القوانين المطبقة في مجتمعاتنا تأخذ في اعتبارها الدور الأسري للمرأة، فإن الأهم هو اكتسابها المعلومات والقيم والمهارات والاتجاهات التي تجعلها تؤدي هذا الدور بأقصى فاعلية، مقتنعة بأن غيرها، خادمةً كانت أم مربية في دور حضانة ورعاية، ليس بوسعها أن توفر لأولادها ما يمكنها هي، إن أخلصت وحازت الصواب.. وهي مسألة انتبهت إليها مدارس فكرية جديدة نادت بـ«التعليم التكاملي المستمر»، وبحت به أصوات علماء اجتماع ونفس ووعاظ، يفزعهم ما يصيب مجتمعاتنا من أسباب للتحلل والاغتراب. إن التحديات الجسيمة التي تواجه مجتمعاتنا، بدءاً من الارتقاء بالأذواق وحتى الإيمان بالأوطان، لن نواجهها بشكل قوي وسليم دون الالتفات إلى دور الأمهات في بناء الأسر الصغيرة، وصولا إلى المجتمع بأسره، مروراً بالعائلات الممتدة، وهي مسألة ليس بوسعنا أن نمضي فيها إلا إذا آمنا بالحكمة القائلة: «الأم مدرسة».