تساعد الاستعارة في التحايل السياسي، من خلال ما تمدنا به من قدرة على استعمال معنى ونحن نقصد معنى آخر، وتعبيد الطريق أمام أولئك الذي يميلون إلى المداراة والمواراة في طرح آرائهم، خوفاً من عقاب سيحل بهم إن هم أقدموا على طرح وجهة نظرهم في الواقع المعيش بطريقة جلية صريحة، تميل إلى الانحياز إلى الحقيقة. وصورت لنا الآداب السلطانية في تاريخ العرب والمسلمين نموذجاً لمثل ذلك التحايل، حين كان الأدباء والفقهاء يقدمون النصائح أو النقد للحاكم مغلفاً بسرديات قصصية أو حكايات من عالم الحيوان والرموز. ولعل ما أقدم عليه أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» يعد مثلاً في هذا، حين زاوج بين المتعة والفائدة، وبين التخييل والتداول، عبر نص يحتوي عدة سمات جمالية، تم توجيهها لتقوم بوظائف عملية بغية خدمة غرض أخلاقي وسياسي، يتمثل في نصيحة الحاكم أو توجيهه، بطريقة غير مباشرة، من منطلق الاقتناع بأن الإصلاح العام يجب أن يبدأ من إصلاح أس الفساد وسببه الأول وهو الرأس، أو السلطة السياسية، التي كانت قائمة وقتها في ديار المسلمين، وذلك حسبما يرى هشام مشبال في كتابه: «البلاغة والسرد والسلطة في الإمتاع والمؤانسة». لكن الاستعارات في زماننا أخذت طرقاً مختلفة أوسع من الوقوف عند حد التعبيرات اللغوية بجمالياتها بغية إنتاج حيلة سياسية من نوع جديد، كأن يميل كاتب أو باحث إلى كتابة مقال أو دراسة أو يقول رأياً عن نظام سياسي مستبد في بلد آخر غير بلد الكاتب، كي يواجه نظام الحكم في بلده، أو يجعل الشعب يعي ما يعيشه من ألم وكبت، كأن يكتب أحدهم عن التقاليد السياسية في كوريا الشمالية، كي ينبه الناس إلى ما يفعله القادة بشعوبهم، أو يكتب ثاني عن تصرفات الحكومات العسكرية في أميركا اللاتينية، والمآلات التي انتهت إليها، أو يكتب ثالث عن نموذج «الدولة الدينية» كما تقدمه إيران منذ وصول الملالي إلى الحكم في 1979 عقب إطاحة الثورة بالشاه، أو نموذج آخر قدمته حركة «طالبان» حين استولت على الحكم في أفغانستان، أو يكتب رابع عن صيغة التحالف بين الجيش والأحزاب الدينية في باكستان، أو صيغة أخرى للصراع المكتوم بين الجيش والقوى الدينية كما قدمته الخبرة التركية. وقد يكون المبعث الرئيس لكتابة من ذلك النوع هو تجنب المتاعب التي يمكن أن تجلبها للكاتب مواجهة ما يحدث في بلاده، إن كان يعارض السياسات القائمة، أقلها، منع نشر ما يكتب، وأقصاها مساءلته، وربما تغريمه أو سجنه، أو مطاردته وإجباره على الصمت أو الهروب. وبالمقابل قد تأخذ الاستعارات من هذه الشاكلة طريق النصح والتشجيع، حين يكتب أحدهم عن نجاح التجربة الفنلندية في التعليم، والتجربة الماليزية في التنمية، والتجربة النضالية في جنوب أفريقيا في سبيل الإجهاز على نظام الفصل العنصري، وكثير من النماذج التي احترمت الحريات العامة وحقوق الإنسان في الدول الديمقراطية. ويمكن لمثل هذا النوع من الاستعارات أن يأخذ أشكالاً مقبولة من السلطة القائمة حين تكلف بعض الخبراء بدراسة نماذج أخرى للتنمية في سبيل الاستفادة منها. والمثل الجلي لهذا هو أثناء إقدام نظام حكم ما على وضع دستور جديد، حيث يمكن أن تتاح لواضعيه فرصة دراسة دساتير أخرى، والاقتباس منها، لاسيما إن كان يراد الوصول إلى النتائج الإيجابية، وربما السلبية، التي انتهى إليها تطبيق مثل هذه الدساتير في واقع مغاير. وعملية الاستزارع تلك، تنطوي أحياناً على قدر كبير من التحايل، إذ بوسع المدافعين عن مسودة الدستور الموضوع أن يحتجوا بأنهم قد نقلوا عن دستور دولة متقدمة، ويوظفون هذا بشكل مفرط في الدعاية لما وضعوه، بغية إقناع الشعب المدعو إلى الاستفتاء على مشروع الدستور كي يشارك بقوة في هذه العملية، مع أن هؤلاء يدركون أن السلطة السياسية في بلادهم لن تلتزم بنصوص الدستور، وستفعل في نهاية الأمر ما يحلو لها، بغية الحفاظ على استمرارها بأي طريقة. ولا تمنع كل هذه الأساليب المفتوحة من «الإحالات الضمنية» إلى استعارات لغوية استخدمها الآخرون أثناء وضع خططهم وبرامجهم ودساتيرهم وتنفيذ صيغهم في الحكم والإدارة. وهنا يمكن أن نجد تركيبات ومصطلحات تتسرب إلى واقع آخر من قبيل «التنمية المستدامة» و«الدولة العميقة» و«الطابور الخامس» و«المسيرة الناجحة» و«النظام الحر» و«الرأسمالية المتوحشة» و«التقدم إلى الخلف».. إلخ، وهي مسألة لا يتوقف تدفقها من ثقافة إلى أخرى، ومن سياق إلى آخر.