المواطنة هي الإكسير السياسي النافذ لوقف هذا الانهيار الذي يقع على رأس الدولة التي تعاني الأزمات السياسية تلو الأخرى، وهي كذلك تبعد عن المجتمعات شبح الإرهاب، التطرف، العنف، الإقصاء، العنصرية والطائفية المنبوذة، وكل ما يقع تحت هذه البنود السيئة. فالمواطنة، هي المستهدفة في الحملات المسعورة لدى المتطرفين شرقاً وغرباً، سواء كانت مقتصرة على الأفراد، أو الدول التي تتمسك بالوطنية كقارب نجاة، أمام الأنظمة الشاملة والقوانين التي تسحق روح الإنسانية النبيلة من أطرافها وأقصاها إلى أقصاها.
لذا نرى بأن المواطنة درجات من الترقيات في سلم الإنسانية، تبدأ من الداخل المحلي، حتى تصل إلى العالمي، وهو ما يزعج دعاة الشعوبية في الشرق العربي، وأنصار الشعبوية في العالم الغربي الذي يمده اليمين المتطرف بوقود الأنانية الذاتية، ضد الآخر حتى لو كان من بني جلدته ويتكلم بلسانه ويحمل دمغة المواطنة الحقة وإن اختلف معه لوناً وجنساً وعرقاً وديناً.
حديثنا هنا ينصب على غير هؤلاء من الذين خدموا العالم وليس مصالحهم الشخصية، وقد ذكر هنري كيسنجر ديفيد روكفلر الذي مات في مارس الماضي عن عمر يناهز 101 عام، فقد نظر هذا الرجل إلى حياته دوماً، باعتبارها التزاماً منه، بتمكين الرجال والنساء الأكثر موهبة وتفانياً، من السعي لحل القضايا المهمة لعصرنا، من أجل مصلحة مجتمعنا ولخير العالم أجمع.
كان «روكفلر» يُستقبل في مختلف دول العالم، استقبال رؤساء الحكومات، وبعد رحيله، ظل يذكرنا دوماً، بأن إرثنا النهائي هو الخدمة والقيم العليا والعمل لصالح الإنسانية، وليس فقط السعي لتحقيق الطموحات الشخصية.
أردت بهذا السرد المختصر لصانع السياسة الخارجية الأميركية منذ ريجان وإلى عهد ترامب، أن أؤكد على هذا المعنى الذي يتضمن السعي نحو صناعة خاصة بالإنسانية العامة عن طريق الترشيح لتولي منصب بلا قرارات سيادية أو إدارية لحيازة وظيفة لا محدودة في مجال المواطنة العالمية. ولهذه الوظيفة العالية المقام شروط أساسية من أهمها، إنكار الذات من أجل القيام بأعمال جليلة، يُهذب لدينا أنانية ذات الذات المقيتة.
والتقدم إلى هذا المنصب متاح لكل من يحمل همَّ الإنسانية أينما تعرضت للانتكاسة أو الإهانة، من قبل بعض الأنظمة الظالمة أهلها، أو القوانين والتشريعات التي تنتهك حرمات وقدسية الإنسان في أعز ما يملك.
هناك منظمات دولية تعطي مناصب شرفية كسفراء الإنسانية الذين يجوبون الأرض بحثاً عن كل ما أهم الإنسان في أي مكان للتركيز على معاناته على مستوى العالم، حتى لا يسقط سهواً من قائمة الأحياء أو ينسى في زحام الأزمات المتتالية والمتوالية العدد من حول العالم أجمع.
ولا نريد قوله هنا هو منصب أعلى من السفارة، لأن أعدادها محدودة فلا تفي بالحاجات الإنسانية المتعددة في شتى بقاع الأرض، من هنا يمكن لكل إنسان أن يكون عالياً في المواطنة، إذا ما خرج صدق الذات إلى سعة الحياة الممتدة في الآفاق. نحتاج إلى نماذج كثيرة من «روكفلر»، وهي ليست معدومة في شتى العوالم، ولكن حتى نسمع عنهم ونقرأ سيرهم في الغرب الأوروبي أكثر عدداً من عالمنا العربي والإسلامي، وهو أمر يتوقف عنده المرء ويستغرب من عدم تكاثره عندنا ونحن نملك كل المواريث الشرعية والفقهية من نبع الإسلام الأصيل الذي يدعو إلى العالمية في كل شيء إلا في إكراه الناس على الدين، وهو عنصر فارق بين جميع الأديان السماوية والأرضية.
فبيل جيتس نموذج لمن وهبَ جُلَ ثروته لصالح المواطنة العالمية التي تخدم الإنسان خارج المكان والزمان، فهو لا يقل عن «روكفلر» عملاً بهذا المبدأ الذي لا يحمل سوى بذور غراس الخير المحض والمجرد عن كل تبعات الأنفاس المتطرفة لإرساء دعائم نسمات الإنسانية روحاً ومعنى.. هذه المواطنة العالمية، لا تحتاج إلى جواز سفر، قد يوقف مفعوله عند حدود الدول، وقد لا تنال شرف العبور لأسباب شتى قد تعلمها، وقد لا يخطر على بالك من أنواع التهم والشبهات التي تصيب إنسانية الإنسانية في مقتل لنسحب منه أحياناً صفة المواطن الحصري فضلاً عن العالمي.