ما يثير العجب أن بعض العرب في حنين إلى زمن العثمانيين، يريدون استرجاعه أو اختراعه في مخيلاتهم، ليسحبوه عن طيب خاطر إلى زماننا، مرة باسم «الخلافة» التي يجب أن تعود، ومرة باسم ما يسمونه «النموذج الإسلامي» والذي يعتقدون أنه قائم في تركيا اليوم، وأخرى باسم الارتباطات والتحالفات الإقليمية التي أعقبت سقوط حكم «الإخوان» في مصر، وأزمة قطر مع جيرانها، والصراعات الدامية على أرض سوريا، والتوظيف التركي للقضية الفلسطينية في محاولة كسب تعاطف المسلمين.
ربما لم يقرأ هؤلاء التاريخ جيداً، فالاحتلال العثماني للعالم العربي أعاق نموه، لأن الترك لم ينشغلوا سوى بثلاثة أمور: تجنيد الرجال ليقاتلوا بغية توسيع ملك بني عثمان، وجباية الأموال بشكل مفرط، وإخلاء بلداننا من المهرة في كل مجال وتخصص واتجاه، وفي مقابل هذا لم يبنوا لنا لبنة، أو يبدعوا لنا جملة مفيدة. وحتى القوانين التي امتاز بها أحد سلاطينهم استفاد منها مسيحيو الغرب واليهود وليس المسيحيون العرب.
فالعثمانيون، كما المغول، كانوا قوة عسكرية صرفة، إذ شكل الرعاة نواة الدولة، فلما اشتد ساعدهم، واطمأنوا إلى قوتهم، ساحوا في الأرض متوسعين. ولم يكن تفوقهم واشتداد عودهم نابعا من تعاليم كتاب، أو تصاريف حكمة، أو تفوق علمي. وقد يقول قائل هنا: كان كتابهم هو القرآن، لكن الحقيقة التاريخية ترد بأن الإسلام لم يكن لديهم سوى شعار فضفاض، وإطار عام للحكم، أو أيديولوجية جامعة، شوهت التأويلات الفاسدة كل معانيه لخدمة السلطان.
وكنت أحسب أن وجود الإمبراطورية العثمانية قد حمى العالم العربي من طمع الغرب الذي ظهرت نزعته الاستعمارية منذ الكشوف الجغرافية للبرتغاليين في القرن الخامس عشر. لكن حين أمعنت النظر في صفحات التاريخ وجدت أن مصر تحت قيادة المماليك في ذلك الوقت كانت لديها قوة بحرية قادرة على الصد، فيما كانت التكوينات السياسية والاجتماعية في بلدان المغرب العربي لديها ما يمكنها من المقاومة. كما أن احتلال العثمانيين لأرض العرب لم يمنع الأوروبيين من احتلالها، فجاءت حملة نابليون بونابرت إلى مصر عام 1798، وحاول الإنجليز احتلالها على يد فريزر عام 1807 فأخفقوا، لكنهم نجحوا عام 1882 بعد هزيمة الثورة العرابية، ليتمددوا في اليمن وشبه الجزيرة العربية والعراق. واحتل الفرنسيون الجزائر عام 1830، وتمددوا ليستولوا على تونس والمغرب، بل احتلوا بلاد الشام، واحتل الإيطاليون ليبيا، وبدأة نواة دولة إسرائيل على أرض فلسطين. وكل هذا تم بينما كان السلطان العثماني الملقب بـ «خليفة المسلمين» موجوداً في الأستانة، يجلس تحت لافتة كتب عليها الأوروبيون «إرث الرجل المريض».
الأدهى من كل ذلك هو تعمد تفريغ بلاد العرب من عناصر قوتها الصلبة، من موارد وجند وأموال، وقوتها الناعمة ممثلة في العمال والحرفيين المهرة، الذين تم أخذهم عنوة إلى بلاد الأتراك، ليبنوا لها مجدا، بينما تُركت البلدان العربية تتهاوى إلى مجاهل التخلف وغياهبه، ولذا لم يكن من المستغرب أن يكون أحد الأهداف الأساسية لحركة القومية العربية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، هو التخلص من الاحتلال العثماني.
كل هذا يتغافل عنه مغرضون منا، يتصورون أن مناصرة النموذج التركي الراهن، هي تعزيز لنموذج إسلامي يتصورونه، وخطوات لا بد أن يقطعوها لاستعادة الخلافة، حتى بلغ الأمر بالقرضاوي إلى القول في فيديو شهير إن الأتراك رجال بينما العرب ليسوا كذلك، وراح أحد إعلاميي جماعة «الإخوان» يطالب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بدعم الليرة التركية كفرض عين، لأن تقاعسهم عن هذا سيؤدي إلى اغتصاب نسائهم، وتحدث ثالث عن عظمة الدراما التركية وتفوقها، ورابع عن الاقتصاد التركي المتين.
لكن الناس في بلادنا متنبهون إلى هذه الحيل، ويدركون أن جماعة «الإخوان» صارت ذراعاً لهذا النموذج، أو «حصان طروادة» الذي يريد أن يتسلل منه إلينا، أو «جماعة وظيفية» تخدم مشروعه الاستعماري.