واحد يقول: السلطة مغرم وليست بمغنم، سئمناها.. سئمناها.. وآخر يقول: أنا لست رئيس دولة حتى أستقيل، بل أنا زعيم ثورة.. والضجيج العربي مستمر، يملأ الشوارع والميادين، والجميع يصرخ باسم الوطن، والجميع يصرح أنه يقضي ليله ونهاره سهراً من أجل مكتسبات الوطن.. ولا تفريط.. الذي يحكم يقول إن المحتجين قلة مأجورة، تريد أن تخرب وتدمر الوطن، وآخر يقول إن المحتجين خونة وخارجون على القانون ولابد من مقاتلتهم حتى النهاية، فإما النصر أو الموت.. فإلى الأمام.. إلى الإمام.
المحتجون يصفون من تظاهروا ضدهم بالتسلط، والتزمت والديكتاتورية، ويجب إزالتهم لإحلال الديموقراطية وحرية الكلام والإعلام، وتشكيل دساتير تلائم العصر، وتتماشى مع متطلبات الشعب.
والضجيج يعلو، والزبد يرغو، ورعد الحناجر يزمجر، وما بين البين يتوسط الإنسان، الذي ليس له ناقة ولا جمل في كل ما يجري، إنسان يريد أن يعيش، يأكل ويشرب، ويوفر لأم العيال ما تشتهيه حتى يظفر بابتسامتها العذبة، ثم ينام قرير العين بلا منغصات.. هذا الإنسان حائر دائر، يستجير بالرمضاء من النار، يحاول أن يفهم متى تنتهي هذه الزوابع، التي يعرف جيداً نهايتها، فالوطن العربي زُج منذ الأزل في أتون ثورات ونضالات، جُلها باءت بالفشل، وتمخضت عن هذه النظم التي كانت في يوم ثورية تقدمية، فأصبحت فاقدة الصلاحية.
هذا الإنسان، البين بين، المتوسط، يقف الآن في مفترق الطرق، يبحث عن هوية صحيحة، تستدير به ناحية الأمل الحقيقي وتعطيه متطلباته البسيطة التي يريدها ويتمناها، هذا الإنسان يجد نفسه في المعمعة، وفي الزوبعة، وما بين التصريحات والتصريحات المضادة، أسير المواقف الرمادية المخيفة، والمُرجعة، والتي لا يعرف مداها ولا مستواها.
هذا الإنسان بفعل تجارب الماضي المؤسفة، فإنه لا يستطيع أن يصدق أحداً ولا يُكذِّب أحداً، ففي وسط الضباب تبدو الرؤية غاشية، ولا حد للمسافة ما بينه وبين التكذيب أو التصديق.
هذا الإنسان المسكين، يبقى هو الضحية، وهو المأسوف على تاريخه، كما نأسف على كل نضالات شعوبنا العربية، التي تحولت إلى مجرد بقايا أثرية، وملصقات على جدران التاريخ.
- تعاطفت كثيراً مع عبد الرحمن شلقم، مندوب ليبيا في الأمم المتحدة، وتأسَّفت على شبابه الذي ضاع هدراً، من دون أن يفهم النتيجة القصوى، لما ستؤول إليه الجماهيرية إلا بعد فوات الأوان، يوم لا تنفع الدموع، ولا تهدئة زملائه الدبلوماسيين، ولا حتى قبلات النساء السمراوات.
- أدهشني كثيراً، تصريح بعض القادة المنشقين عن القذافي، ووصفهم له بالرجل المتعنت، والمتزمت.. بعد أربعين عاماً، وأربعين مليون تحية سلام.. وانحناءة..


marafea@emi.ae