ماء الوقت يندلق، يثير ثنايا العمر، ومض فجائي يموج بالسكون نحو تأمل الأفق، فمن الوهن أن تحفل الشمس شاخصة، ستحيل عبئها الى الوجه الآخر، حبا ستفتح شجرة “النبج” غصونها ليفد إليها أسراب العصافير الجائعة، تهوي من كل حدب وصوب، وقد غادرت أعشاشها، بعد شقاء الرحلة لم تعد تفرد أجنحتها، لم تعد تغرد في هدأة اللحظة. لم أكن وفياً لشجرة “النبج”، غادرت ظلالها المحتشدة، تظللني عبر الدروب الخوالي، تنحسر وترتد في ترحاب، ملأى بثمارها، تحف أثمالي برائحة عطرها. تركت أشواكها تخدش زجاج النوافذ، لتنصهر على الأبواب بحرية تامة، تتفرع بنسيج الصمت المؤنس، تركت أثرا لطفولتي هنا، للمدى رحيق، وعبق يتحدث بلغة حارة السوق القديمة، عيون الصفاصيف تحرس وجوه الإندثار، وبقايا بيوت الطين، طمستها سيول الأمطار، ووريقات الرسائل التي بيننا أحالتها الريح الى الزوايا المسحورة. لم يعد أحد هنا، أمتدت بهم الخطوات الى سائر الأرض، لم تعد هنا بيوت لتطفئ شموعها، تساقطت كأوراق الخريف، أتم الظلام رقصة الانتظار، فما تبقى هو مسجد الشيخة سلامة، لايزال يطرق أبواب الروح بنداءات الصلاة. من أعطى إشارة المسار ونحن في أوج نشوة الحب، يا لك من خصوصية كتبتها خربشات التراب، نسجت لنا قصصا في قلب النخيل، كنا معا بعيدا عن العيون تلهو لتتحرر الينابيع من سطوة مزمنة. هنا سهوب الدروب تلتوي، طرق الجبال حيث تتوارى خيالات النخيل، كل حكاياتي تمادت كأن لا عاشق سواي.. ينبش فلج “الصاروج”، ويعلن اندلاق الماء في الأفلاج الصغيرة المنحدرة، في طريقها تلملم الخلال وسعف النخيل. تشق أسماك الصد طريقها عنوة، تحف أجساد الفتيات الصغيرات، خلسة يتساقطن بأسمالهن في الفلج، لا يبالين وسمك الصد يدغدغ حافة أرجلهن، شعورهن تغدو رطبة وطليقة يتقطر من أطرافها الماء، أجسادهن بضة وجميلة وهن يغادرن واحة النخيل في اتجاه أحلامهن المبعثرة، يشققن وادي “الهمله” بين بقايا الجبال الراسيات منذ زمن بعيد، يبدو على الفتيات الخوف والشغب في آن واحد، يتمتمن بأن الكهوف مشبعة بالثعابين والحيوانات المفترسة. بعد زمن الجفاء هل سنحتكم للكتابة؟ أمام الملأ من سيبادر أو هل ستظلين مكتوفة الأيدي؟ لم تعد فيك رائحة من كان يقطن هنا، هل الريح هي التي بددت الوجوه، كما كانت تبدد اوراقنا الصغيرة؟ كنا نعد طائراتنا الورقية، نصنعها بأيدينا، نلصق بها أوراقا ملونة لكي تزخرف السماء، هذه رسائلنا كلما اشتدت الريح، هذه حياتنا اذا ما ثقبت الأمطار السقوف، يندلق الماء بالبكاء، أهل الحارة يلتم بهم الموقف، تبدو السواعد جميلة مليئة بالنخوة العربية. لم نعرف السر إلا بعد حين، مكثنا نطرق النافذة وبائعة “الآيس كريم” تمد يدها يبدو ساعدها الجميل، نضع نصف درهم، تحاول إخفاء الطريقة إلا أن عيوننا تخترق المسافة وتتضح الفكرة، فلا يمكن أن يندلق الماء دون أن نعي بأن “الفيمتو” صبغ ألسنتنا بالأحمرار.