تتسع الهوة كل يوم بين الإبداع العربي ونقده. وفي كل بلد عربي يتكرر سؤال غياب النقد، وتراجع النقاد وانهيار الحدود بين الأجناس الأدبية، واختلاط الغث بالسمين. نرى ذلك في الشعر الذي يتوزع بين مدارس عدة وتيارات تكاد تكون متضادة في فهمها لموضوع الشعر والشعرية، وبالتالي أسلوب نقده وتفكيكه وإضاءة جمالياته. وتستفحل الأزمة عندما نذهب للرواية التي تتسيد المشهد اليوم، لكنها تقدم المئات من التجارب التي لا ترتقي حتى للحدود الدنيا من الإبداع الروائي. يضاف إلى ذلك بالطبع الفسحة الكبيرة التي أتاحتها وسائل التواصل الاجتماعي، حيث الجميع أصبحوا نقاداً، وما عاد الكاتب من هؤلاء يلتفت الى ضرورة النقد العلمي أو الأكاديمي ما دام يلقى التصفيق والتهليل بمنجزه البسيط من قبل المئات من المتابعين الذين لا يعرفهم أصلاً، ولا يُقام لرأيهم وزن. الحقيقة أن الأدب في كل مكان، يقف على أرضيتين، هما الإبداع من جهة، ونقده من جهة أخرى. وكلا الكفتين يجب أن تتوازيا كي يكتمل المشهد الأدبي وينمو في بيئة طبيعة. وما يحدث في الغرب، الذي تزدهر فيه الحركات النقدية المتجددة بتجدد الأدب، هو أن الجميع يدرك ويفهم ديناميكية الصناعة الأدبية. ويبدأ هذا الفهم من الأفراد، ويتسع ليشمل الصحف والمجلات الأدبية، وصولاً إلى الجامعات التي تطرح الآلاف من الرسائل والبحوث المتعلقة بالنقد ونقد النقد باستمرار. ثم تكتمل هذه الدائرة الصناعية بدخول دور النشر واهتمامها بنوعيات وتخصصات الإبداع، واستقطاب الفكر النقدي لتعزيز توجهاتها. هناك من يرى أن النقد، بمفهومه الشامل، يحتاج أيضاً إلى الحرية كشرط لتطوره واستمراره. ولا يمكن لمجتمعات منغلقة على ذاتها، وتدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، أن تقبل بتطور النقد الحر لديها. وهذا ما تعانيه تحديداً حركة الإبداع العربي الذي لا يزال جزءاً كبيراً من نصوصه الجديدة التي قدمها الأدباء طيلة أكثر من نصف قرن، مرفوضة اجتماعياً وغير مستساغة وغير مفهومة أيضاً. ولذلك تظل الكثير من المؤسسات الثقافية، الإعلامية، الأكاديمية، دور النشر، لا ترى جمالاً هذا في هذا الإبداع. ولا يوجد ناقد عربي واحد، يمكن أن يؤثر في تغيير مسار هذه البوصلة المضادة للتجديد الإبداعي والنقدي. الى من نحتكم إذن، إذا كان الهامش ينبض بالنصوص الحقيقية، ولا يلتفت له أحد؟. لا نملك إلا أن نترك حركة التاريخ تأخذ مجراها، لعل من غربالها يتقاطر عسل حبرٍ نقيّ.