ملايين الكلمات نحوكها منذ نضارة الحلم والصبا. عشرات الأفكار نعيد نسجها بمعانٍ ودلالات مغايرة.. هواجس تحتضن الأمل الذي ندجج به أرواحنا، لا من أجل الصمود في وجه واقع ووقائع أوغلت في فجاجتها ووحشيتها، بل من أجل ذلك السحر الذي نسميه شهوة الحياة أو الخلود. نكتب كما غيرنا يبدع في العمارة، أو النجارة، أو أي فن من الفنون التي أبدعها الإنسان منذ مسيرة حضاراته، كي يجعل لحياته قيمة تعلو على كائنات الفطرة. لكننا ندرك الآن مع تطور العلوم أن قيمة كائنات الفطرة هذه تكمن في ضرورة وجودها لحفظ توازن الحياة في هذا الكوكب، الذي يسعى الإنسان ـ بضراوة سلوكه ووحشية طبعه ـ إلى تدميره وتدميرنا نحن البشر الذين حين ميّزتنا الطبيعة بهذا العقل، جنت على نفسها! كنت أتجول في حديقتي المتواضعة فرأيت أزهار الفل تتفتح في ظلال المساء وتنثر عطرها السخي في الأثير، وحين سألتها: لمن هذا البياض الباذخ وهذا العطر السخي؟ اهتز الغصن رهيفاً وكأنني توهمت أنها قالت: لا لأحد! في حين أنني أدرك أن رذاذ أنفاسي وذبذبات صوتي هي التي حركت الغصن والزهرة. العطر كينونة الزهرة، وهي لا تمنح عطرها من أجل رسالة أو غاية، بل لأن طبيعتها أن تنث عطرها في الأثير. وحين نستنشقها، نستشعر البهجة والارتخاء. لماذا؟ لأن في الطبيعة دوماً ما يوصل الكيمياء بالكيمياء. تماماً كما نشعر بالنفور والإغماء حين نستنشق الغاز والروائح الكريهة. إن قوانين الطبيعة أكثر إعجازاً من قوانيننا نحن البشر الذين مسطرنا كل شيء، وتوهمنا الغايات والوظائف، وجعلنا لكل نشاط نقوم به، وكل فعل نأتيه، غاية وسبباً، ورسالة ووظيفة، وعقاباً وثواباً! لماذا؟ ربما لأننا كائنات ضئيلة في هذا الكوكب الصغير والكون الشاسع. كبذرة ريحان في حضن الطبيعة. ألسنا خلية غاية في الضآلة في رحم الأنثى؟ ما هي وظيفة الشعر والكتابة؟ هذا هو السؤال الذي تقحمنا في مأزقه مؤسسات الإعلام. كلما أرادت أن تؤدلج كل نشاط بشري لغاية، مسبقة ومرصودة. يتوهم بعض الكتاب أنهم يكتبون ليغيّروا واقعهم، وغاب عن بالهم أن قذيفة من مدفع طائرة، أو رأسا نووياً أو قنبلة ذرية قادرة بصيغة مذهلة على تغيير العام في ثوانٍ! نكتب لأننا نحب الكتابة فقط، كما يعشق الطفل اللعب برمل الشاطئ، برغم الفارق الشاسع بين مصير الطفل الذي يلعب بالرمل، وبين مصير الكاتب الذي يلعب بالكلمات، ويعبث بالعقول!