السيد سورس في رواية «الرسم تحت المجلى» رجل مذهل بكل ما تعنيه العبارة، وبالرغم من كونه لا يعد شخصية محورية في العمل الذي كتبه البرتغالي «أفونسو كروش» إلا أن بعدها الفلسفي يضرب في هيكل الرواية بمجملها، بالرغم من وفاته في الصفحة الخمسين تقريباً!. فالسيد «سورس» كبير الخدم في منزل العقيد «مولر» ذو سمة غريبة جداً في رأيي. ويقول الراوي في ذلك، إنها سمة يرغب بها ويطمح إليها جميع الملوك والأباطرة والفراعنة والقياصرة، وهي الصدق من رجل قريب.. يقول بالضبط ما يرغب فيه من دون أي اعتبار!. والحقيقة أن صفة كهذه لا يمكن أن تأتي لأي كان، فمقدار قليل من الذكاء يمنع أي شخص من التفوه بكل ما يجول في عقله، وذلك كإجراء احتراز طبيعي يتمتع به الإنسان، فالبشر وخلال تاريخ طويل من تراكم الخبرات أصبحوا يدركون إلى حد كبير متى يقال ذاك ومتى لا يقال هذا لضمان استمرار بقائهم وبقاء مصالحهم.

غير أن الطبيعة العقلية للسيد سورس - التي رسمها الكاتب - كانت إلى حد كبير تجعلنا كقراء للرواية نستوعب هذا القدر من الصراحة الفجة؛ فقد كان لدى سورس قصور عقلي إلى حد ما، فلم يكن يمتلك أي قدرة على استيعاب الاستعارات والصور البلاغية، وهذا يجعله لا يتردد إطلاقاً في الاستخفاف بأي تعبير يقال أمامه حتى لو كان قائله شخص خاص ومميز في ضيافة سيده. فمثلًا لا يمكنه استيعاب جملة من قبيل «هذا الرجل يحمل في قلبه سلاحاً فتاكاً» إلا في معناها اللغوي البحت، ولذا لم يتردد في التهجم على الرجل وقتله بحثاً عن السلاح الموجود في قلبه!
توقفت كثيراً عند هذه الشخصية واستحالتها فعلًا. وأدهشني ما ذكر على لسان الراوي، من أن مثل هذا الرجل الصادق مرغوب من الملوك والأباطرة أو من أصحاب النفوذ والسلطة!. هذا تماماً ما يستحيل تصديقه، إذ أن آخر ما يرغب به أي منا سواء كان ملكاً أو خفيراً، هو شخص سليط اللسان يخبره بعيوبه بكل بساطة؛ وهذا على الرغم من فضولنا الكبير نحن البشر في معرفة ما يقوله عنا الآخرون، ولذا كانت أجهزة التنصت ووظائف التجسس والمراقبة من أدوات النظم القمعية بحثاً عن الحقيقة التي يقولها الناس، غير أن ذات النظام لا يمكن إطلاقاً أن يقبل أن يأتي هؤلاء الناس ليخبروه بما يعتقدون عنه؛ فهذا أمر وذاك أمر آخر. عموماً، مات سورس سريعاً أو هكذا أراد له الكاتب وهذا جيد؛ فمثل هؤلاء لا يمكن أن يعيشوا طويلًا.