من محاسن تعدد الفضائيات العربية، وجود بعض القنوات التي اشتغلت على أرشيف التليفزيونات الأرضية القديمة، وإعادة بثه، ومن أهم ما يعاد عرضه تلك البرامج الحوارية التي استضافت الكتاب والمفكرين والفنانين العرب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ومن أهمها على الإطلاق تلك التي كان يديرها الإعلامي المصري «طارق حبيب» رحمه الله. وبصراحة لولا هذا الأرشيف لما تنبهت لمقدار ما نحن مبتلون به الآن. لقد قدم «حبيب» مدرسة فريدة في الحوارات التلفزيونية؛ مدرسة حمل فيها شعلة تنوير المجتمع عبر رسالة قدم له فيها كل ذي قيمة وثراء معرفي من خلال ضيوفه من أعلام الأدب والفن والفكر. لدينا مقدمو برامج - وبكل أسف - لم يسمعوا قط بمدرسة طارق حبيب، ولم تمر عليهم في حياتهم العلمية والمهنية ما يسمى بمدونات السلوك المهني أو أخلاقيات الظهور الإعلامي. والمثير خروج هؤلاء من استديوهات التليفزيونات إلى الفعاليات الكبرى ليقدموها بالطريقة الاستعراضية نفسها، مستغلين الفرص للاستحواذ على الكاميرات و«المايك» بضحكاتهم وملابسهم وسماجتهم. ليس هذا وحسب، بل ويشوشون على الفعالية وأبطالها الحقيقيين بشكل فج مكشوف. الأكثر إيلاماً في المسألة هو ما يقدمه هؤلاء من نماذج لإعلاميي المستقبل المتوقع منهم أن يديروا البرامج الحوارية في إعلامنا ويتصدروا منصات فعالياتنا. وهو ما يجعلنا نبحث عن نماذج تعد أعلاماً في عالم الإعلام كنموذج «طارق حبيب‏» نقدمها لهم، إن كنا نرغب في تصدير صورة راقية وثرية في برامجنا وفعالياتنا. كان حبيب يحاور ضيوفه بمنتهى الرقة والوداعة «الفخمة» بلا إزعاج كالذي نشهده الآن، كان يكتفي بسؤال عميق جداً ومكثف لدرجة لا تشعر به، إلا وقد أثار كُتباً ومقالات ومشاهد في عقل ضيفه فيفيض على المتابع بدرر العلوم والمعارف التي يملكها، على عكس ما نشاهده الآن من أسئلة مقدمين أقرب للمطولات والاستعراضات السطحية التي لا طائل منها إلا سرقة كادر الكاميرا أطول فترة ممكنة من زمن اللقاء. كان طارق حبيب لا تفارقه الابتسامة والعذوبة التي بقيت على محياه حتى وفاته عام 2013 دون تكلف وتشدق، يحاور ضيوفه بحب شديد ورغبة منه في إظهار أروع وأرقى ما فيهم، لا رغبة في فضحهم وإحراجهم ومنازلتهم والتفوق عليهم. كان يطرح أسئلته ويترك لضيوفه مساحتهم دون مقاطعة أو تدخل مزعج - كالذي يغلب على هذه النوعية من البرامج اليوم - لتصبح إجاباتهم دروساً خالدة.