لن يستطيع الجيل الجديد أن يتخيل مقدار التغير والتحول الذي نال الكثير من الأماكن المحلية والشعبية، ولن يصل إلى روح المكان وأثره وتأثيره حتى لو استعان بالعديد من الأفلام والصور والتسجيلات القديمة، بل حتى الأسواق الشعبية الأخرى، مثلاً سوق التمر أو دكاكين البضائع القديمة، والتي تمت المحافظة عليها وإعادة ترميمها، وجلب كل الأدوات والأغراض القديمة إليها.. بالتأكيد لن تقدم كل شيء عن ماضي تلك الأسواق، وسوف يعجز التخيل أن يعيد أولئك القدامى الذين يعطون لوناً ورائحة وطعماً للمكان بحديثهم وملابسهم وأصواتهم، الكثير فقد ومضى ولم يعد المحيط يحمل حتى جزءاً بسيطاً من الماضي، لا الناس هم الناس ولا شخوص الحياة اليومية في هذه الأسواق يشبهون الذين رحلوا ومضوا، الحياة وأهل المكان يذكرونني بالدمية الروسية تلك التي تحمل في جوفها عدداً من دمى تشبهها في الشكل، ولكن بالتأكيد لا تساويها في الحجم، ناس هذه الأسواق، وأقصد العرب منهم، لا يشبهون آباءهم وأجدادهم في الصبر والكفاح اليومي والعطاء، بل حتى صورهم الخارجية، من ملبس ولهجة وتفاعل مع المكان قد تغيرت.
وإن عدنا إلى سوق السمك بالتحديد وصورته القديمة وأهميته للناس وأهله، فقد فَقَدَ الكثير، وحدها الأسماك ظلت على حالها، أما السوق ومحيطه، فإنه فقد إلى الأبد، الروح الشعبية التفاعلية اختفت تماماً كما رحل الأوائل من أهلنا، صحيح أن هذا أمر طبيعي وجميل أن يتغير الإنسان، وأن تتطور الحياة، وأن تتقدم البلد في مرافقها كافة، وأن تيسَّر الأمور وتحل الصعاب، وتتوافر كل سبل الراحة والتنظيم وترتيب كل شيء، ولا اعتراض بالتأكيد على هذا الأمر وهو مسلك طبيعي، لكنني أشير إلى الروح الشعبية والإحساس بقرب المكان من ذاتك وتكوينك وروحك، هذا الأمر فقد بالتأكيد بلا رجعة.

روح المحبة والتجمع الشعبي لمرتادي الأسواق القديمة قد انتهت، وتباعدت الألفة والمحبة، ومعرفة الآخر عن قرب والتحاور معه، اختفت صلاتهم الشعبية والأخوية التي كانت تعززها قديماً وتدعمها تلك الأسواق القديمة.

الأبناء لن يعرفوا مقدار أهمية تلك الأسواق في أزمنة مضت، ولن يستطيعوا أن يعيدوا تلك الأماكن إليهم، لقد أصبحوا زبائن، حتى إن بعضهم لا يعرف ماذا يختار أو يأكل من طعام!! جمالية وأهمية سوق السمك القديم لأهل الخليج العربي رحلت، فمن يعيدها ثانية؟