تقصّد هدم الأنساق الرتيبة في التعبير، هو ما يمنح اللغة حيويتها الجديدة. على مستوى تركيب الجمل وابتكار الدلالات وتوليدها، وعلى مستوى إبداع الصور. والشعر بمفهومه الأعمق كفعل ينتمي إلى الحرية، إنما يتكئ على الهدم كأساس لتشييد بنية الخيال وانفتاحه على أبعاد لا نهائية. هنا يبرز الهدم كمبدأ وشرط للإبداع، لكنه مبدأ ناقص، لأنه بدوره يتكئ على مبدأ آخر يليه وهو البناء. ويعتمد أيضاً على ما يسبقه، وهو وجود بنية جاهزة ينبغي هدمها لإنشاء المعمار الجديد. والعملية برمتّها، إذا ما أردنا تطبيقها مثالاً على القصيدة أو النص الشعري، تحمل تداخلاً بين عناصرها الثلاثة. فنرى في القصيدة التي تتولد من هذا الفعل، بقايا أساسات قديمة لا يمكن هدمها، وملامح من صور وخيالات مركبة خليطة وهجينة، وصوراً أخرى تبدو جديدة ولامعة ولمّاحة. أي أننا سنكون أمام نص جديد يتكون معماره من مجموعة أفعال تتم داخل اللغة، وهي التي تشكّل في النهاية علوّ نسقه التعبيري من عدمه.
قد تبدو هذه النظرة التحليلية في فلسفة اللغة، سنداً مقبولاً لتفكيك النصوص وتحليلها وقياس علاماتها واستنباط رمزيتها وإشاراتها. لكن في الشعرية، هناك دائماً منطقة عائمة لا يمكن القبض عليها. منطقة تتداخل فيها التجارب الإنسانية والحسيّة، ومدى حضور الإيقاع النفسي، والإيقاع الصوتي أيضاً (من غير أن يكون شرطاً عروضياً لازماً). وهناك أيضاً هندسة معمار النص ككل، مثل عمليات التقديم والتأخير وصولاً إلى التنقيط وطول السطر والفراغات البيضاء، وغيرها من التفاصيل التي تشكل الحالة الكاملة لمظهر النص داخلياً وخارجياً، شكلاً ومضموناً.
يضاف إلى ذلك كله مستوى الوعي. وهو أهم عنصر في العملية الشعرية. نحن لسنا هنا أمام قوة توليد الصور لأنها ستظل نسبية. ولا في استعراض التراكيب والعبارات الجديدة والمختلفة والجميلة. هذه كلها لا تكفي. والشعرية في معناها الجوهري والعميق، هي نزوح للوعي خارج نمطيته، نوع من التمرد القصدي على مكامن الارتباك والخوف والموت والذل في قراءة الوجود. القصيدة التي تمتدح الجلاد بأشد التعابير روعة، لا تمثل جوهر الشعر حتى لو كتبت بماء الذهب. حدث هذا في الماضي، لكنها اليوم قصائد عارية من الوعي، ومن فهم العالم والتاريخ.
ما نريده هو أن نقرأ النص الشعري الذي ينحاز بكل ما فيه إلى الحرية كطريق وحيد لخلاص أرواحنا.