خلال سنوات من السفر والتردد شبه الدائم على كثير من المدن، عشقت أماكن للاسترخاء والتأمل والمتعة والعمل أحياناً، ولا شيء يجمع تلك الخصال إلا المقاهي، فعرفت مقاهي بعينها في كل مدينة، ونشأت صداقة من حب ما جمعتنا، اليوم يشدني الحنين لكثير منها، مثل مقهى الروضة، فالزائر والمحب لدمشق لا يمكنه أن يخطئ الدرب الموصل إليه، وهو الذي قاوم منذ أن أنشئ عام 1938، ولا أدري اليوم كيف حاله؟ وما أصابه، وهل ما زال المترددون، والمتقاعدون والمثقفون ينصون بابه؟ ويحتلون مقاعده الخيزرانية والخشبية العتيقة، ويكتبون أحلامهم المتبقية مع ركوة قهوة، وكأس ماء من الحنفية، وينفثون دخان سجائرهم أو الأرجيلة بالنَفَس العجمي بحثاً عن منفى بارد، أو وظيفة يطلقها الحظ في المدن النفطية، يمكنها أن تساعد شاباً على الزواج، وشراء شقة وسيارة، ثم التفكير في هجرة غير مضمونة إلى كندا. مقهى الروضة يحتل زواياه كبار الموظفين المتقاعدين والتعبين من العمل الرسمي في وزارات ما زالت كما هي، بالغبرة نفسها، وبالملفات المربطة بخيوط صعب أن يفتلها الوقت، والذين يفترشون المكان بعد أن أصبح جزءاً جميلاً في يومهم، يتحلقون على طاولة صديق، ويبدأ الرهان النهاري أو المسائي على لعبة الطاولة، والتي عادة ما يكون الفائز والمغلوب غير راضين بدرجة كبيرة عن الدور.
يظل النادل القديم، يحاور الطاولات، وتلك الصينية النحاسية الرطبة التي عادة ما تحمل أكثر من كأس: «شاي، ينسون، زهورات، قرفة»، ويكاد يحفظ الوجوه كلها، وحساباتها المضبوطة، بعضها ما زالت تعطيه من فكة النقود المعدنية، كما اعتادت أن تفعل في نهاية الستينيات، وهو ما زال يناديهم بألقابهم التركية المندثرة شاكراً، وهو يملأ جيب السروال الأسود، ولا يسأل، لأن «الحال من بعضه»، وهو شعار يرفعه زبناء هذا المقهى، والذي تطبع بطبعهم، وغدا يشبه وجوه البعض منهم، حينما يغلبهم الهرم، ولا عاد يبالون بسرعة الحياة.
مقهى الروضة الذي حوّله «عبدالرحمن المرادي» من دار سينما صيفية إلى مقهى شعبي منذ قرابة الثماني والسبعين عاماً، شهد أحداثاً سياسية، وانقلابات وهزائم وتصفيات، شهد الحراك الثقافي والفكري لدمشق، أنزوى فيه كتّاب سوريا الكبار وشعراؤها وفنانوها، وطاف به معظم المثقفين العرب، والمنفيين سياسياً وثقافياً، واللاجئين من التقلبات الحزبية، والمنظمات الشعبية، فيه كانت تتداور أسماء تشكيل الوزراء في سوريا في عهودها الماضية، لأنه كان مقر التقاء السياسيين، وقريباً من البرلمان، ويمسك بخاصرة دمشق، وشوارعها التي كانت حيّة، قبل أن تطأها الأحذية العسكرية الخشنة.
هل ما زال ذلك المقهى العتيق في مكانه رغم الشظايا، والعيارات الطائشة؟ وهل ما زال «أبو الحكم» النادل المخلص يسرح في أرجائه؟ والناس هل تبدلت عادتهم حين يأتون، ويثرثرون، ويدخنون، ويشربون، ويقرؤون صحفهم، ولا يشتكون إلا من الحياة..