غيّب الموت مريم بنت غانم التي كان لها من النور قبس اهتدى به العارفون. وقبل أن «أصفق اليمنى على اليسرى خليه»، جذبت بعضُ الذكريات دموعاً استبدلتها بالدعاء وقلت لنفسي: «وأُمٌ أخرى... تسحب الأرض من تحتنا»، ودعتها من غربة بعيدة، ورحبت بالذاكرة التي أوضحت صوراً من تأملها تعلم أن الحياة من دون أُم هي ألمٌ لا يعرف النهاية.
وبعد عودتي، هرعت إلى منزل المرحومة، فهذا هو وقت الواجب وإكرام وجود من رحل قبلنا. وأذكر أني نقرت باب بيتهم كما فعلت طيور العطار في «منطق الطير»، وسار المفتاح يدور في ثقبه والباب مغلق... صمت القفل وهمس المفتاح وانفرج الباب... وسمعت صوتاً يقول: «ليش تدقين الباب والبيت بيتك»، قبّلت رأس صاحبة البيت وعظّمت لها الأجر ورفعت يدي إلى مكة المكرمة ودعوت للمرحومة بكل ما أتمناه لأمي، فقد كانت سيدة وقورة ينتهي عندها الحياء والعفة والجمال.
دعتني صاحبة البيت للجلوس، ومجلسها عامر... فجلست بقرب سيدة نال العمر من أيامها، فعزلها العلم وتوجتها المعرفة بخيوط الأفكار التي حاكت بها شبكة اجتماعية متناسقة الغزل. سألتها عن الماضي، فصورت الحياة بالشعر وزيّنتها بالأمثال، وقالت «وما تطلع النار إلا من بير عدن»، فطاف شريط الذكريات، إذ كانت والدتي تتغنى بهذا المثل كلما رأت ما يثير الدهشة. و«تشلبح» ذلك المثل معي إلى أن وصلت البيت، ففتحت كتاب «هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن»، حيث ذكر أحدهم أن «هذه النار تخرج من البئر التي في قعر جبل صيرة وأنها موجودة إلى الآن وكامنة فيه، وأن بعضهم مذ زمن قريب أدلى فيها حبلاً فخرج طرفه محترقاً، كذا في تاريخ ثغر عدن».
للعارفين أقول: تنام مريم قريرة العين، نفسها مطمئنة، وتجمعنا الصدف في فضاء الحب، فنغوص في وادي المعرفة بحثاً عن الحقيقة التي تعيش في عبق الماضي. وعندما نخرج للعالم، نجد من جاء سابقاً لعصره وأوانه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، فهو من قال: «على شعبنا ألا ينسى ماضيه وأسلافه، كيف عاشوا وعلى ماذا اعتمدوا في حياتهم، وكلما أحسّ الناس بماضيهم أكثر، وعرفوا تراثهم، أصبحوا أكثر اهتماماً ببلادهم وأكثر استعداداً للدفاع عنها».
الحمد لله على نعمة اسمها دولة الإمارات العربية المتحدة، وغفر الله لمن غرس فينا القيم السامية والإخلاص... سلامٌ من فضاء الحب في وادي المعرفة.